خبر عمارة بن الوليد والسبب الذي من أجله سحر
  فدفعه عمارة في البحر. فلمّا وقع فيه سبح حتى أخذ بالقلس(١) فارتفع فظهر على السفينة. فقال له عمارة: أما واللَّه لو علمت يا عمرو أنك تحسن السّباحة ما فعلت. فاضطغنها عمرو وعلم أنه أراد قتله. فمضينا على وجههما ذلك حتى قدما أرض الحبشة ونزلاها. وكتب عمرو بن العاص إلى أبيه العاص أن اخلعني وتبرّأ من جريرتي إلى بني المغيرة وجميع بني مخزوم. وذلك أنه خشي على أبيه أن يتبع بجريرته وهو يرصد لعمارة ما يرصد. فلما ورد الكتاب على العاص بن وائل مشى في رجال من قومه منهم نبيه ومنبّه ابنا الحجّاج(٢) إلى بني المغيرة وغيرهم من بني مخزوم فقال: إنّ هذين الرجلين قد خرجا حيث علمتم، وكلاهما فاتك صاحب شرّ، وهما غير مأمونين على أنفسهما ولا ندري ما يكون. وإنّي أبرأ إليكما من عمرو ومن جريرته وقد خلعته. فقالت بنو المغيرة وبنو مخزوم:
  أنت تخاف عمرا على عمارة! وقد خلعنا نحن عمارة وتبرّأنا كلّ قوم من صاحبهم ومما جرّ عليهم، فبعثوا مناديا ينادي بمكة بذلك. فقال الأسود بن المطَّلب: بطل واللَّه دم عمارة بن الوليد آخر الدهر!. فلما اطمأنّا بأرض الحبشة لم يلبث عمارة أن دبّ لامرأة النجاشيّ فأدخلته فاختلف إليها. فجعل إذا رجع من مدخله يخبر عمرو بن العاص بما كان من أمره. فجعل عمرو يقول: ما أصدّقك أنك قدرت على هذا الشأن، إنّ المرأة أرفع من ذلك.
  فلما أكثر على عمرو مما كان يخبره، وقد كان صدّقه ولكن أحبّ التثبّت، وكان عمارة يغيب عنه حتى يأتيه في السّحر، وكان في منزل واحد معه، وجعل عمارة يدعوه إلى أن يشرب معه فيأبى عمرو ويقول: إنّ هذا يشغلك عن مدخلك، وكان عمرو يريد أن يأتيه بشيء لا يستطيع دفعه إن هو رفعه إلى النجاشيّ. فقال له في بعض ما يذكر له من أمرها: إن كنت صادقا فقل لها تدهنك من دهن النجاشيّ الذي لا يدّهن به غيره فإنّي أعرفه، لو أتيتني به لصدّقتك. ففعل عمارة [فجاء(٤)] بقارورة من دهنه، فلمّا شمّه عرفه. فقال له عمرو عند ذلك: أنت صادق! لقد أصبت شيئا ما أصاب / أحد مثله قطَّ من العرب ونلت من امرأة الملك شيئا ما سمعنا بمثل هذا - وكانوا أهل جاهليّة - ثم سكت عنه، حتى إذا اطمأنّ دخل على النجاشيّ فقال: أيها الملك! إنّ ابن عمّي سفيه، وقد خشيت أن يعرّني(٥) عندك أمره، وقد أردت أن أعلمك شأنه. [ولم أفعل(٦)] حتى استثبتّ أنّه(٧) قد دخل على بعض نسائك فأكثر. وهذا من دهنك قد أعطيه ودهنني منه. فلما شمّ النجاشيّ الدّهن قال: صدقت، هذا دهني الذي لا يكون إلَّا عند نسائي. ثم دعا بعمارة / ودعا بالسواحر، فجرّدوه من ثيابه فنفخن في إحليله، ثم خلى سبيله فخرج هاربا(٨).
  فلم يزل بأرض الحبشة حتى كانت خلافة عمر بن الخطَّاب. فخرج إليه عبد اللَّه بن أبي ربيعة - وكان اسمه قبل أن
(١) القلس: حبل غليظ من حبال السفن.
(٢) هما نبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر بن بفة بن سعد بن سهم، كانا من أشراف قريش، ماتا على الشرك في غزوة بدر؛ قتل الأوّل حمزة بن المطلب، والثاني أبو اليسر أخو بني سلمة. («السيرة» ج ١ ص ٣٢٤، ٤٣٦، ٤٧٥، ٥١٠).
(٣) السهميون: قوم عمرو بن العاص، وبنو سهم من هصيص بن كعب بن لؤي.
(٤) زيادة عن «تجريد الأغاني».
(٥) عره: لطخه بعيب.
(٦) التكملة عن «تجريد الأغاني».
(٧) في الأصول: «حتى استثبت وأنه ...» بزيادة الواو.
(٨) في «تجريد الأغاني» «فخرج هاربا هائما على وجهه مع الوحش. ومتى رأى الإنس هرب منهم وطلع له شعر غطى جميع بدنه.
ولم يزل كذلك مدّة أيام النبيّ ﷺ وأيام أبي بكر ¥ وصدرا من خلافة عمر ¥، فخرج إليه ... إلخ.