كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

غناء الواثق

صفحة 193 - الجزء 9

  لقد بخلت حتى لو انّي سألتها ... قذى العين من ضاحي التراب لضنّت

  كان عنده مخارق لإسحاق فجفاه وأصلحت بينهما فريدة:

  فأعجب به واستحسنه، وأمر المغنّين فغنّوا فيه، وأمر بإشخاص إسحاق إليه من بغداد ليسمعه.

  فكاده مخارق عنده وقال: يا أمير المؤمنين، إن إسحاق شيطان خبيث داهية، وإن قولك له فيما تصنعه: هذا صوت وقع إلينا، لا يخفى عليه به أنّ الصوت لك ومن صنعتك ولا يوقع في فهمه أنه قديم، فيقول لك وبحضرتك ما يقارب هواك، فإذا خرج عن حضرتك قال لنا ضدّ ذلك. فأحفظ الواثق قوله وغاظه، وقال له: أريد على هذا القول منك دليلا. قال: أنا أقيم عليه الدليل إذا حضر. فلما قدم به وجلس في أوّل مجلس اندفع مخارق يغنّي لحن الواثق:

  لقد بخلت حتّى لو انّي سألتها

  فزاد فيه زوائد أفسدت قسمته فسادا شديدا وخفيت على الواثق لكثرة زوائد مخارق في غنائه. فسأله الواثق عنه؛ فقال: هذا غناء / فاسد غير مرضيّ عندي. فغضب الواثق وأمر بإسحاق فسحب حتى أخرج من المجلس. فلما كان من الغد / قالت فريدة للواثق: يا أمير المؤمنين، إن إسحاق رجل يأخذ نفسه بقول الحق في صناعته على كل حال ساءته أو سرّته، لا يخاف في ذلك ضررا ولا يرجو نفعا؛ وما لك منه عوض. وقد كاده مخارق عندك فزاد في صدر الصوت من زوائده التي تعرف، وتركه في المصراع الثاني على حاله، ونقص من البيت الثاني، وقد تبيّنت ذلك.

  وأنا أعرضه على إسحاق وأغنيّه إيّاه على صحّته، واسمع ما يقول. وما زالت تلطف للواثق حتى رضي عنه وأمر بإحضاره. فغنّته إيّاه فريدة كما صنعه الواثق. فلمّا سمعه قال: هذا صوت صحيح الصّنعة والقسمة والتجزئة، وما هكذا سمعته في المرة الأولى. ثم أخبر الواثق عن مواضع فساده حينئذ، وأبان ذلك له بما فهمه. وغنّته فريدة عدّة أصوات من القديم والحديث كلَّها يقول فيها بما عنده من مدح لبعضها وطعن على بعض. فاستحسن الواثق ذلك وأجازه يومئذ وحباه، وجفا مخارقا مدّة لما فعله به.

  أخبرني جحظة قال حدّثني ابن المكَّيّ عن أبيه قال:

  كان الواثق إذا صنع شيئا من الغناء أخبر إسحاق به وعرضه عليه حتى يصلح ما فيه ثم يظهره.

  وقد أخبرني الحسن بن عليّ عن يزيد بن محمد المهلَّبيّ بهذا الخبر فذكر نحو ما ذكرته ها هنا وفي ألفاظه اختلاف. وقد تقدّم ذكره⁣(⁣١) وابتدأناه في أخبار إسحاق. والأبيات الثانية التي غنّى فيها الواثق وإسحاق أنشدنيها عليّ بن سليمان الأخفش وعليّ بن هارون بن عليّ بن يحيى جميعا عن هارون بن عليّ بن يحيى عن أبيه عن إسحاق لأعرابيّ، وأنشدناها محمد بن العبّاس اليزيديّ قال أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب لبعض الأعراب:

  /

  ألا قاتل اللَّه الحمامة غدوة ... على الغصن ماذا هيّجت حين غنّت

  فغنّت بصوت أعجميّ فهيّجت ... هواي الذي كانت ضلوعي أكنّت

  فلو قطرت عين امرئ من صبابة ... دما قطرت عيني دما وألمّت

  فما سكتت حتى أويت لصوتها ... وقلت أرى هذي الحمامة جنّت


(١) راجع ج ٥ ص ٣٦٠ - ٣٦١ من هذه الطبعة.