أخبار أبي عيسى بن الرشيد ونسبه
  / لمّا توفّي أبو عيسى بن الرّشيد وجد المأمون عليه وجدا شديدا، وكان له محبّا وإليه مائلا. فركب إلى داره حتى حضر أمره وصلَّى عليه، وحضره الناس، وكنت فيمن حضر، فما رأيت مصابا حزينا قطَّ أجمل أمرا في مصيبة ولا أحرق وجدا منه من رجل صامت تجري دموعه على خدّيه من غير كلح(١) ولا استنثار.
  بكاه المأمون وتمثل شعرا وعزاه فيه ابن أبي دواد وعمرو بن مسعده وناحت عليه عريب:
  أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن أبي سعد الورّاق قال حدّثني محمد بن عبد اللَّه بن طاهر قال حدّثني أبي قال قال أحمد بن أبي دواد:
  دخلت على المأمون في أوّل صحبتي أيّاه وقد توفّي أخوه أبو عيسى وكان له محبّا وهو يبكي ويمسح عينيه بمنديل، فقعدت إلى جنب عمرو بن مسعدة وتمثّلت قول الشاعر:
  نقص من الدّنيا وأسبابها ... نقص المنايا من بني هاشم
  ولم يزل على تلك الحال ساعة يبكي، ثم مسح عينيه وتمثّل:
  سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض ... فحسبك منّي ما تجنّ الجوانح
  كأن لم يمت حيّ سواك ولم تنح ... على أحد إلَّا عليك النوائح
  ثم التفت إليّ فقال: هيه يا أحمد! فتمثّلت قول عبدة بن الطَّبيب:
  عليك سلام اللَّه قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحّما
  تحيّة من أوليته منك نعمة ... إذا زار عن شحط بلادك سلَّما
  وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تهدّما
  فبكى ساعة ثم التفت إلى عمرو بن مسعدة فقال: هيه يا عمرو! قال: نعم يا أمير المؤمنين
  بكَّوا حذيفة لم تبكَّوا مثله ... حتى تعود قبائل لم تخلق
  / فإذا عريب وجوار معها يسمعن ما يدور بيننا، فقلن: اجعلوا لنا معكم في القول نصيبا. فقال لها المأمون: قولي، فربّ صواب منك كثير. فقالت:
  كذا(٢) فليجلّ الخطب وليفدح الأمر ... وليس لعين لم يفض ماؤها عذر
  كأنّ بني العبّاس يوم وفاته ... نجوم سماء خرّ من بينها البدر
  فبكى وبكينا. ثم قال لها المأمون: نوحي، فناحت وردّ عليها الجواري. فبكى المأمون حتى قلت: قد خرجت نفسه، وبكينا معه أحرّ بكاء، ثم أمسكت. فقال لها المأمون: اصنعي فيه لحنا وغنّي به. فصنعت فيه لحنا على مذهب النّوح وغنّته إيّاه على العود. فوالذي لا يحلف بأجلّ منه لقد بكينا عليه غناء أكثر ممّا بكينا عليه نوحا.
(١) كذا في الأصول. والذي في «كتب اللغة». كلح وجه الرجل كلوحا وكلاحا (كغراب): تكشر في عبوس أو عبّس فأفرط في تعبسه.
والاستنثار: إخراج ما في الأنف من أذى.
(٢) يلحظ أن هذا الشعر لأبي تمام في رثاء محمد بن حميد الطوسي، وقد قتل هذا الأمير في حرب كانت بينه وبين أصحاب بابك الخرمي سنة ٢١٤ هجرية. والمروي هنا أن أبا عيسى بن الرشيد مات سنة ٢٠٩ هجرية، فتأمل هذا، وأصل الشعر «كأن بني نبهان» فغير وجعل «كأن بني العباس».