كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

نسب زهير وأخباره

صفحة 448 - الجزء 10

  رآنا لا نقف عليه صاح: يا حار اربع عليّ ساعة. فوقفنا له فكلَّمه بذلك الكلام فرجع مسرورا. فبلغني أن أوسا لمّا دخل منزله قال لزوجته أدعي لي فلانة (لأكبر بناته) فأتته، فقال: يا بنية، هذا الحارث بن عوف سيّد من سادات العرب، قد جاءني طالبا خاطبا، وقد أردت أن أزوّجك منه فما تقولين؟ قالت: لا تفعل. / قال: ولم؟ قالت: لأني امرأة في وجهي ردّة⁣(⁣١)، وفي خلقي بعض العهدة⁣(⁣٢)، ولست بابنة عمّه فيرعى رحمي، وليس بجارك في البلد فيستحي منك، ولا آمن أن يرى منّي ما يكره فيطلَّقني فيكون عليّ في ذلك ما فيه. قال: قومي بارك اللَّه عليك.

  ادعي لي فلانة (لابنته الوسطى)؛ فدعتها، ثم قال لها مثل قوله لأختها؛ فأجابته بمثل / جوابها وقالت: إني خرقاء وليست بيدي صناعة، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلَّقني فيكون عليّ في ذلك ما تعلم، وليس بابن عمّي فيرعى حقّي، ولا جارك في بلدك فيستحييك. قال: قومي بارك اللَّه عليك. أدعي لي بهيسة (يعني الصغرى)، فأتي بها فقال لها كما قال لهما. فقالت: أنت وذاك. فقال لها: إني قد عرضت ذلك على أختيك فأبتاه. فقالت - ولم يذكر لها مقالتيهما - لكنّي واللَّه الجميلة وجها، الصّناع يدا، الرفيعة خلقا، الحسيبة أبا، فإن طلَّقني فلا أخلف اللَّه عليه بخير.

  فقال: بارك اللَّه عليك. ثم خرج إلينا فقال: قد زوّجتك يا حارث بهيسة بنت أوس. قال: قد قبلت. فأمر أمّها أن تهيّئها وتصلح من شأنها، ثم أمر ببيت فضرب له، وأنزله إيّاه. فلمّا هيّئت بعث بها إليه. فلمّا أدخلت إليه لبث هنيهة ثم خرج إليّ. فقلت: أفرغت من شأنك؟ قال: لا واللَّه. قلت: وكيف ذاك؟ قال: لمّا مددت يدي إليها قالت: مه! أعند أبي وإخوتي! هذا واللَّه ما لا يكون. قال: فأمر بالرّحلة فارتحلنا ورحلنا بها معنا، فسرنا ما شاء اللَّه. ثم قال لي: تقدّم فتقدمت، وعدل بها عن الطريق، فما لبث أن لحق بي. فقلت: أفرغت؟ قال لا واللَّه. قلت: ولم؟ قال:

  قالت لي: أكما يفعل بالأمة الجليبة أو السبيّة الأخيذة! لا واللَّه حتى تنحر الجزر، وتذبح الغنم وتدعو العرب، وتعمل ما يعمل لمثلي. قلت: واللَّه إني لأرى همّة وعقلا، وأرجو أن تكون المرأة منجبة إن شاء اللَّه. فرحلنا حتى جئنا بلادنا، فأحضر الإبل والغنم، ثم دخل عليها وخرج إليّ. فقلت: أفرغت؟ قال لا. قلت: ولم؟ قال: دخلت عليها أريدها، وقلت لها قد أحضرنا من المال ما قد ترين، فقالت: واللَّه لقد ذكرت لي من الشرف ما لا أراه فيك.

  قلت: وكيف؟ قالت: أتفرغ لنكاح النّساء والعرب تقتل بعضها! (وذلك في أيام حرب عبس وذبيان). قلت: فيكون ماذا؟ قالت: اخرج / إلى هؤلاء القوم فأصلح بينهم، ثم ارجع إلى أهلك فلن يفوتك. فقلت: واللَّه إني لأرى همّة وعقلا، ولقد قالت قولا. قال: فأخرج بنا. فخرجنا حتى أتينا القوم فمشينا فيما بينهم بالصلح، فاصطلحوا على أن يحتسبوا القتلى؛ فيؤخذ الفضل ممن هو عليه، فحملنا عنهم الدّيات، فكانت ثلاثة آلاف بعير في ثلاث سنين، فانصرفنا بأجمل الذّكر. قال محمد بن عبد العزيز: فمدحوا بذلك، وقال فيه زهير بن أبي سلمى قصيدته:

  أمن أمّ أوفى دمنة لم تكلَّم

  فذكرهما فيها فقال:

  تداركتما عبسا وذبيان بعد ما ... تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم⁣(⁣٣)


(١) الردة: القبح مع شيء من الجمال.

(٢) العهدة: الضعف.

(٣) منشم زعموا أنها امرأة عطارة من خزاعة، فتحالف قوم فأدخلوا أيديهم في عطرها على أن يقاتلوا حتى يموتوا، فضرب زهير بها المثل، أي صار هؤلاء في شدة الأمر بمنزلة أولئك. وقيل: هي امرأة من خزاعة كانت تبيع عطرا فإذا حاربوا اشتروا منها كافورا لموتاهم فتشاءموا بها، وكانت تسكن مكة. وفيه أقوال أخرى كثيرة راجعها في «لسان العرب» (في مادة نشم) وأمثال الميداني في