كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

عمر بن أبي ربيعة وصاحبه العذري

صفحة 116 - الجزء 11

  فلا يبعدنك اللَّه خلَّا فإنني ... سألقى كما لا قيت في كلّ مصرع

  ثم انطلقت حتى وقفت موقفي من عرفات. فبينا أنا كذلك إذ أنا بإنسان قد تغيّر لونه وساءت هيئته، فأدنى ناقته من ناقتي حتى خالف بين أعناقهما، ثم عانقني وبكى حتى اشتدّ بكاؤه. فقلت: ما وراءك؟ فقال: برح العذل، وطول المطل، ثم أنشأ يقول:

  لئن كانت عديّة ذات لبّ ... لقد علمت بأنّ الحبّ داء

  ألم تنظر إلى تغيير جسمي ... وإنّي لا يفارقني البكاء

  ولو أنّي تكلَّفت الذي بي ... لقفّ⁣(⁣١) الكلم وانكشف الغطاء

  فإنّ معاشري ورجال قومي ... حتوفهم الصّبابة واللَّقاء

  إذا العذريّ مات خليّ ذرع ... فذاك العبد يبكيه الرّشاء

  / فقلت: يا أبا المسهر إنها ساعة تضرب إليها أكباد الإبل من شرق الأرض وغربها، فلو دعوت اللَّه كنت قمنا أن تظفر بحاجتك وأن تنصر على عدوّك. قال: فتركني وأقبل على الدعاء. فلمّا نزلت الشمس للغروب وهمّ الناس أن يفيضوا سمعته يتكلَّم بشيء، فأصغيت إليه، فإذا هو يقول:

  يا ربّ كلّ غدوة وروحه ... من محرم يشكو الضّحى ولوحه

  أنت حسيب الخلق يوم الدّوحة

  الجعد بن مهجع يذكر لعمر سبب عشقه ومسعى عمر في زواجه من عشقها:

  فقلت له: وما يوم الدوحة؟ قال: واللَّه لأخبرنّك ولو لم تسألني: فيمّمنا نحو مزدلفة، فأقبل عليّ وقال: إني رجل ذو مال كثير من نعم وشاء، وذو المال لا يصدره ولا يرويه الثّماد⁣(⁣٢). وقطر⁣(⁣٣) الغيث أرض كلب، فانتجعت أخوالي منهم، فأوسعوا لي عن صدر المجلس وسقوني جمّة⁣(⁣٤) الماء، وكنت فيهم في خير أخوال. ثم إنّي عزمت على موافقة إبلي بماء لهم يقال له الحوذان، فركبت فرسي وسمطت⁣(⁣٥) خلفي شرابا كان أهداه إليّ بعضهم ثم مضيت، حتى إذا كنت بين الحيّ ومرعى النّعم رفعت⁣(⁣٦) لي دوحة عظيمة، فنزلت عن فرسي وشددته بغصن من أغصانها وجلست في ظلَّها. فبينا أنا كذلك إذ سطع غبار من ناحية الحيّ ورفعت لي شخوص / ثلاثة، ثم تبيّنت فإذا فارس يطرد مسحلا⁣(⁣٧) وأتانا، فتأمّلته فإذا عليه درع أصفر وعمامة خزّ سوداء، وإذا فروع شعره تضرب خصريه، فقلت: غلام حديث عهد بعرس أعجلته لذّة الصيد فترك ثوبه ولبس ثوب امرأته. فما جاز عليّ إلا يسيرا حتى طعن المسحل وثنّى طعنة للأتان فصرعهما، وأقبل راجعا نحوي وهو يقول:


(١) قف: يبس، يريد التأم. يقول: لو أني حاولت الذي بي وتكلفته لسهل على أن أبرأ منه، ولكنه قدر من اللَّه لا محيص منه.

(٢) الثماد: جمع ثمد (بالتحريك وبالفتح) وهو الماء القليل الذي لا مادّ له.

(٣) كذا في «ج». وفي «سائر الأصول»: «ونضر الغيث» وهو تحريف.

(٤) جمة الماء (بالضم): معظمه.

(٥) سمط هنا: علق.

(٦) رفع لي الشيء: أبصرته من بعيد.

(٧) المسحل: الحمار الوحشي. والأتان: الحمارة الوحشية.