كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

عمر بن أبي ربيعة وصاحبه العذري

صفحة 117 - الجزء 11

  /

  نطعنهم سلكى ومخلوجة ... كرّك لأمين على نابل⁣(⁣١)

  فقلت: إنك قد تعبت وأتعبت، فلو نزلت! فثنى رجله فنزل فشدّ فرسه بغصن من أغصان الشجرة وألقى رمحه وأقبل حتى جلس، فجعل يحدّثني حديثا ذكرت به قول أبي ذؤيب:

  وإنّ حديثا منك لو تبذلينه ... جنى النّحل في ألبان عوذ مطافل⁣(⁣٢)

  فقمت إلى فرسي فأصلحت من أمره ثم رجعت، وقد حسر العمامة عن رأسه، فإذا غلام كأنّ وجهه الدينار المنقوش. فقلت: سبحانك اللَّهمّ! ما أعظم قدرتك وأحسن صنعتك! / فقال: ممّ ذاك؟ قلت: مما راعني من جمالك وبهرني من نورك. قال: وما الذي يروعك من حبيس التّراب، وأكيل الدوابّ، ثم لا يدري أينعم بعد ذلك أم يبأس. قلت: لا يصنع اللَّه بك إلَّا خيرا. ثم تحدّثنا ساعة، فأقبل عليّ وقال: ما هذا الذي أرى قد سمعت في سرجك؟ قلت: شراب أهداه إليّ بعض أهلك، فهل لك فيه من أرب؟ قال: أنت وذاك. فأتيته به، فشرب / منه وجعل ينكت أحيانا بالسّوط على ثناياه، فجعل واللَّه يتبيّن لي ظلّ السوط فيهن. فقلت: مهلا فإني خائف أن تكسرهنّ، فقال: ولم؟ قلت: لأنهن رقاق وهنّ عذاب. قال: رفع عقيرته يتغنّى:

  إذا قبّل الإنسان آخر يشتهي ... ثناياه لم يأثم وكان له أجرا

  فإن زاد زاد اللَّه في حسناته ... مثاقيل يمحو اللَّه عنه بها الوزرا

  ثم قام إلى فرسه فأصلح من أمره ثم رجع. قال: فبرقت لي بارقة تحت الدّرع. فإذا ثدي كأنه حقّ عاج. فقلت:

  نشدتك اللَّه امرأة؟ قالت: إي واللَّه إلَّا أنّي أكره العشير وأحبّ الغزل. ثم جلست فجعلت تشرب معي ما أفقد من أنسها شيئا حتى نظرت إلى عينيها كأنّهما عينا مهاة مذعورة. فو اللَّه ما راعني إلَّا ميلها على الدوحة سكرى. فزيّن لي واللَّه الغدر وحسن في عيني، ثم إنّ اللَّه عصمني منه، فجلست حجرة منها. فما لبثت إلَّا يسيرا حتى انتبهت فزعة، فلاثت عمامتها برأسها، وجالت في متن فرسها، وقالت: جزاك اللَّه عن الصّحبة خيرا. قلت: أو ما تزوّدينني منك زادا؟ فناولتني يدها، فقبّلتها فشممت واللَّه منها ريح المسك المفتوت، فذكرت قول الشاعر:

  كأنها إذ تقضّى النوم وانتبهت ... سحابة مالها عين ولا أثر

  قلت: وأين الموعد؟ قالت: إنّ لي إخوة شرسا وأبا غيورا. وو اللَّه لأن أسرّك أحبّ إليّ من أن أضرّك، ثم انصرفت.

  فجعلت أتبعها بصري حتى غابت، فهي واللَّه يا بن ربيعة أحلَّتني هذا المحلّ وأبلغتني. فقلت له: يا أبا المسهر إنّ الغدر بك مع ما تذكر لمليح. فبكى واشتدّ / بكاؤه. فقلت: لا تبك؛ فما قلت لك ما قلت إلا مازحا، ولو لم أبلغ


(١) البيت لامرئ القيس. والسلكى: الطعنة المستقيمة تلقاء الوجه. والمخلوجة: الطعنة المعوجة عن يمين وشمال. واللام: السهم عليه ريش لؤام. واللؤام من الريش: ما يلائم بعضه بعضا، وهو ما كان بطن القذة منه يلي ظهر الأخرى، وهو أجود ما يكون. فإذا التقى بطنان أو ظهران فهو لغاب ولغب. والنابل: صاحب النبل. يصف الطعن بأنه كان يذهب فيهم ويرجع سريعا كما تردّ سهمين على رام رمى بهما. وقيل سئل امرؤ القيس وهو يشرب مع علقمة بن عبدة عن معنى قوله «كرك لأمين» فقال: مررت بنابل وصاحبه يناوله الريش لؤاما وظهرا، فما رأيت أسرع منه فشبهت به. وقال القتيبي: إنما هو «كر كلامين» أي تكرير كلام بمعنى قول القائل للرامي: إرم إرم، أي ليس بين الطعن والطعن إلا بمقدار ارم ارم. وقال زيد بن كندة: يريد أن يطعن طعنتين مختلفتين ويوالي بينهما كما يوالي هذا القائل بين هاتين الكلمتين. (راجع «لسان العرب» في الموادّ خلج وسلك ولأم، وشرح «ديوان امرئ القيس» للوزير أبي بكر عاصم بن أيوب).

(٢) عوذ، جمع عائذ وهي الحديثة النتاج إلى خمسة عشر يوما أو نحوها ثم هي بعد ذلك مطفل.