كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

أخبار أبي الطمحان القيني

صفحة 6 - الجزء 13

  وقيوده حتى صعد الأكمة، ثم أقبل يضرب ببصره نحو اليمن، وتغشاه عبرة فبكى، ثم رفع طرفه إلى السماء وقال:

  اللهم ساكن السماء فرّج لي مما أصبحت فيه. فبينا هو كذلك إذ عرض له راكب يسير، فأشار إليه أن أقبل، فأقبل الراكب، فلما وقف عليه قال له: ما حاجتك يا هذا؟ قال: أين تريد؟ قال: أريد اليمن. قال: ومن أنت؟ قال [أنا]⁣(⁣١) أبو الطَّمحان القينيّ، فاستعبر باكيا. فقال [له]⁣(⁣١) أبو الطَّمحان: من أنت؟ فإني أرى عليك سيما الخير ولباس الملوك، وأنت بدار ليس فيها ملك. قال: أنا قيسبة بن كلثوم السّكونيّ، خرجت عام كذا وكذا أريد الحج، فوثب عليّ هذا الحيّ فصنعوا بي ما ترى، وكشف عن أغلاله / وقيوده؛ فاستعبر أبو الطمحان، فقال له قيسبة: هل لك في مائة ناقة حمراء؟ قال: ما أحوجني إلى ذلك! قال: فأنخ، فأناخ. ثم قال له: أمعك سكَّين؟ قال نعم. قال:

  ارفع لي عن رحلك، فرفع له عن رحله حتى بدت خشبة مؤخره⁣(⁣٢)؛ فكتب عليها قيسبة بالمسند⁣(⁣٣)، وليس يكتب به غير أهل اليمن:

  بلَّغا كندة⁣(⁣٤) الملوك جميعا ... حيث سارت بالأكرمين الجمال

  أن ردوا العين بالخميس⁣(⁣٥) عجالا ... واصدروا عنه والرّوايا⁣(⁣٦) ثقال

  هزئت جارتي وقالت عجيبا ... إذ رأتني في جيدي الأغلال

  إن تريني عاري العظام أسيرا ... قد براني تضعضع واختلال

  فلقد أقدم الكتيبة بالسي ... ف عليّ السلاح والسربال

  وكتب تحت الشعر إلى أخيه أن يدفع إلى أبي الطَّمحان مائة ناقة. ثم قال له: أقرئ هذا قومي؛ فإنهم سيعطونك مائة ناقة حمراء. فخرج تسير به ناقته، حتى أتى / حضر موت، فتشاغل بما ورد له ونسي أمر قيسبة حتى فرغ من حوائجه. ثم سمع نسوة من عجائز اليمن يتذاكرن قيسبة ويبكين، فذكر أمره، فأتى أخاه الجون بن كلثوم، وهو أخوه لأبيه وأمه، فقال له: يا هذا، إني أدلَّك على قيسبة وقد جعل لي مائة من الإبل. قال له: فهي لك.

  فكشف عن الرحل، فلما قرأه الجون أمر له بمائة ناقة، ثم أتى قيس بن معديكرب الكنديّ أبا الأشعث بن قيس، فقال له: يا هذا، إن أخي في بني عقيل أسير، فسر معي بقومك، فقال له: أتسير تحت لوائي حتى أطلب ثأرك وأنجدك، وإلا فامض راشدا. فقال له الجون: مسّ السماء أيسر من ذلك وأهون عليّ مما خيّرته. وضجّت


(١) زيادة عن نسخة ط.

(٢) يجوز فيه سكون الهمزة مع فتح الخاء وكسرها، وفتح الهمزة مع تشديد الخاء مفتوحة ومكسورة، كما يقال فيه آخرة الرحل وآخره ومؤخرته، وفي «مؤخرته» من اللغات ما في «مؤخره».

(٣) المسند: هو خط حمير وهو مخالف لخطنا. وقد نشرت كلية الآداب بجامعة فؤاد الأوّل كتابا في حروف هذا الخط، وحل الآثار اليمنية المكتوبة به من تأليف الأستاذ أغناطيوس جويدي، اسمه «المختصر في علم اللغة العربية الجنوبية القديمة». ويعدّ أجود المراجع في خط اليمن ولغتها.

(٤) كان قيسبة من قبيلة السكون. والسكون: بطن من كندة. لذلك استنجد بملوكهم.

(٥) الخميس: الجيش الكامل، وهو المؤلف من خمس فرق: المقدمة، والقلب، والميمنة، والميسرة والساقة.

(٦) الروايا: جمع راوية وهي هنا المزادة فيها الماء. وتطلق الرواية أيضا على البعير أو البغل أو الحمار الَّذي يستقى عليه الماء. والرجل المستقى أيضا راوية. ومن الأوّل قول عمرو بن ملقط:

ذاك سنان محلب نصره ... كالجمل الأوطف بالراويه

ومن الثاني قول أبي طالب:

وينهض قوم في الحديد إليكمو ... نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل