كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

أخبار أرطأة ونسبه

صفحة 29 - الجزء 13

  إليها وهي عند رأسه، فقالت له: إنك لتنظر إليّ نظر رجل له حاجة، قال: إي واللَّه إن لي إليك حاجة لو ظفرت بها لهان علي ما أنا فيه. قالت: وما هي؟ قال: أخاف أن تتزوّجي بعدي. قالت: فما يرضيك من ذلك؟ قال: أن توثّقي لي / بالأيمان المغلَّظة. فحلفت له بكلّ يمين سكنت إليها نفسه ثم هلك. فلما قضت عدتها خطبها عمر بن عبد العزيز وهو - أمير المدينة - فأرسلت إليه: ما أراك إلا وقد بلغتك يميني، فأرسل إليها: لك مكان كلّ عبد وأمة عبدان وأمتان، ومكان كلّ علق⁣(⁣١) علقان، ومكان كلّ شيء ضعفه. فتزوّجته، فدخل عليها بطال بالمدينة، وقيل:

  بل كان رجلا من مشيخة قريش مغفّلا، فلما رآها مع عمر جالسة قال:

  تبدلت بعد الخيزران جريدة ... وبعد ثياب الخزّ أحلام نائم

  فقال له عمر: جعلتني ويلك جريدة وأحلام نائم! فقالت أمّ هشام: ليس كما قلت، ولكن كما قال أرطاة بن سهية:

  وكائن ترى من ذات بثّ وعولة ... بكت شجوها بعد الحنين المرّجع

  فكانت كذات البو⁣(⁣٢) لمّا تعطفت ... على قطع من شلوه المتمزّع

  متى لا تجده تنصرف لطياتها⁣(⁣٣) ... من الأرض أو تعمد لإلف فتربع

  عن الدهر فاصفح إنه غير معتب ... وفي غير من قدوارت الأرض فاطمع

  وهذه الأبيات من قصيدة يرثي بها أرطاة ابنه عمرا.

  أرطأة يقيم عند قبر ابنه حولا ويرق قومه لحاله بعد ذلك فيقيمون عامهم ذلك

  أخبرني محمّد بن عمران الصّيرفيّ، قال: حدّثنا الحسن بن عليل، قال: حدّثنا قعنب بن المحرز عن أبي عبيدة، قال: كان لأرطاة بن سهيّة ابن يقال له: عمرو، فمات، فجزع عليه أرطاة حتى كاد عقله يذهب، فأقام على قبره، وضرب بيته عنده لا يفارقه حولا. ثم إن الحيّ أراد الرّحيل بعد حول لنجعة بغوها، فغدا على قبره، فجلس عنده / حتى إذا حان الرواح ناداه: رح يا ابن سلمى معنا! فقال له قومه: ننشدك اللَّه في نفسك وعقلك ودينك، كيف يروح معك من مات مذ حول؟ فقال: أنظروني الليلة إلى الغد. فأقاموا عليه، فلمّا أصبح ناداه: اغد يا ابن سلمى معنا، فلم يزل الناس يذكَّرونه اللَّه ويناشدونه، فانتضى سيفه وعقر راحلته على قبره، وقال: واللَّه لا أتبعكم فامضوا إن شئتم أو أقيموا. فرقّوا له ورحموه، فأقاموا عامهم ذلك، وصبروا على منزلهم. وقال أرطاة يومئذ في ابنه عمرو يرثيه:

  وقفت على قبر ابن سلمى فلم يكن ... وقوفي عليه غير مبكى ومجزع

  هل أنت ابن سلمى إن نظرتك رائح ... مع الركب أو غاد غداة غد معي

  أأنسى ابن سلمى وهو لم يأت دونه ... من الدهر إلا بعض صيف ومربع /

  وقفت على جثمان عمرو فلم أجد ... سوى جدث عاف ببيداء بلقع


(١) العلق: النفيس من كل شيء.

(٢) البوّ: جلد الحوار يحشى ثماما أو تبنا أو غيرهما فيقرب من أم الفصيل فتعطف عليه فتدر.

(٣) طياتها (غير مشددة): أراد بها طياتها (بالتشديد) فحذف الياء الثانية. وهي جمع طية. والطية هنا: الوجه الَّذي يراد ويقصد. وقد نص صاحب «اللسان» على تخفيف ياء هذا الجمع في الشعر.