كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

أخبار ناهض بن ثومة ونسبه

صفحة 123 - الجزء 13

  الهلالي، فرأيت دورا متباينة وخصاصا⁣(⁣١) قد ضمّ بعضها إلى بعض، وإذا بها ناس كثير مقبلون ومدبرون، عليهم ثياب تحكي ألوان الزهر، فقلت في نفسي: هذا أحد العيدين: الأضحى أو الفطر. ثم ثاب إليّ ما عزب عن عقلي، فقلت: خرجت من أهلي في بادية البصرة في صفر، وقد مضى العيدان قبل ذلك، فما هذا الَّذي أرى؟ فبينا أنا واقف متعجّب أتاني رجل فأخذ بيدي، / فأدخلني دارا قوراء⁣(⁣٢)، وأدخلني منها بيتا قد نجّد في وجهه فرش ومهّدت، وعليها شابّ ينال فروع شعره منكبيه، والناس حوله سماطان⁣(⁣٣)، فقلت في نفسي: هذا الأمير الَّذي حكي لنا جلوسه على الناس وجلوس الناس بين يديه، فقلت وأنا ماثل بين يديه: السلام عليك أيها الأمير ورحمة اللَّه وبركاته. فجذب رجل يدي، وقال: اجلس فإن هذا ليس بأمير. قلت: فما هو؟ قال: عروس. فقلت: واثكل أمّاه، لربّ عروس رأيته بالبادية أهون على أهله من هن أمه⁣(⁣٤). فلم أنشب⁣(⁣٥) أن دخل رجال يحملون هنات⁣(⁣٦) مدوّرات، أمّا ما خفّ منها فيحمل حملا، وأما ما كبر وثقل فيدحرج فوضع ذلك أمامنا، وتحلَّق القوم عليه حلقا، ثم أتينا بخرق بيض فألقيت بين أيدينا، فظننتها ثيابا، وهممت أن أسأل القوم منها خرقا أقطَّعها قميصا، وذلك أني رأيت نسجا متلاحما / لا يبين له سدى ولا لحمة، فلما بسطه القوم بين أيديهم إذا هو يتمزّق سريعا، وإذا هو - فيما زعموا - صنف من الخبز لا أعرفه؛ ثم أتينا بطعام كثير بين حلو وحامض، وحار وبارد؛ فأكثرت منه وأنا لا أعلم ما في عقبه من التّخم والبشم؛ ثم أتينا بشراب أحمر في عساس⁣(⁣٧)، فقلت: لا حاجة لي فيه، فإني أخاف أن يقتلني. وكان إلى جانبي رجل ناصح لي أحسن اللَّه جزاءه، فإنه كان ينصح لي من بين أهل المجلس، فقال: يا أعرابي إنك قد أكثرت من الطعام، وإن شربت الماء همى⁣(⁣٨) بطنك. فلما ذكر البطن تذكَّرت شيئا أوصاني به أبي والأشياخ من أهلي، قالوا: لا تزال حيّا ما كان بطنك شديدا فإذا اختلف فأوص⁣(⁣٩). فشربت من ذلك الشراب لأتداوى به، وجعلت أكثر منه فلا أملّ شربه، فتداخلني من ذلك / صلف لا أعرفه من نفسي، وبكاء لا أعرف سببه ولا عهد لي بمثله، واقتدار على أمري أظنّ معه أني لو أردت نيل السّقف لبلغته، ولو ساورت⁣(⁣١٠) الأسد لقتلته، وجعلت ألتفت إلى الرجل الناصح لي فتحدّثني نفسي بهتم أسنانه وهشم أنفه، وأهمّ أحيانا أن أقول له: يا ابن الزانية! فبينا نحن كذلك إذ هجم علينا شياطين أربعة، أحدهم قد علَّق في عنقه جعبة فارسيّة مشنّجة⁣(⁣١١) الطرفين دقيقة الوسط، مشبوحة بالخيوط شبحا منكرا؛ ثم بدر الثاني فاستخرج من كمّه هنة سوداء كفيشلة الحمار⁣(⁣١٢)، فوضعها في فيه، وضرط ضراطا لم أسمع - وبيت اللَّه - أعجب منه، فاستتمّ بها أمرهم، ثم حرّك أصابعه على أجحرة فيها فأخرج منها أصواتا ليس كما بدأ


(١) الخصاص: البيوت من القصب، جمع خص.

(٢) القوراء: واسعة.

(٣) السماطان: الصفان.

(٤) الهن: الفرج.

(٥) فلم أنشب، يقال ما نشبت أفعل كذا أي ما زلت.

(٦) هنات: أشياء، جمع هنة.

(٧) عساس بكسر العين جمع عس بالضم: هي القداح الكبيرة.

(٨) همى بطنه: أي انطلق.

(٩) اختلف: أصابه إسهال.

(١٠) ساورت الأسد: وأثبته. وفي ب، س: «شأوت».

(١١) المشنجة: المنقبضة.

(١٢) الفيشلة: الحشفة ورأس كل مدور.