أخبار غيلان ونسبه
  للملك، فعلمت أنه لم يقدم على رفع الصّوت هناك غير الملك فسجدت إعظاما له. قال: فاستحسن كسرى ما فعل، وأمر له بمرفقة توضع تحته(١)، فلما أتي بها رأى عليها صورة الملك، فوضعها على رأسه، فاستجهله كسرى واستحمقه، وقال للترجمان: قل له: إنّما بعثنا إليك بهذه لتجلس عليها. قال: قد علمت، ولكنّي لما أتيت بها رأيت عليها صورة الملك، فلم يكن حقّ صورته على مثلي أن يجلس عليها، ولكن كان حقّها التعظيم، فوضعتها على رأسي، لأنّه أشرف أعضائي وأكرمها عليّ. فاستحسن فعله جدّا، ثم قال له: ألك ولد؟ قال: نعم. قال: فأيّهم أحبّ إليك؟ قال: الصّغير حتى يكبر، والمريض حتّى يبرأ، والغائب حتى يؤوب. فقال كسرى: زه، ما أدخلك عليّ ودلَّك على هذا القول والفعل إلا / حظَّك، فهذا فعل الحكماء وكلامهم، وأنت من قوم جفاة لا حكمة فيهم، فما غذاؤك؟ قال: خبز البرّ. قال: هذا العقل من البرّ، لا من اللبن والتمر. ثم اشترى منه التجارة بأضعاف ثمنها، وكساه وبعث معه من الفرس من بنى له أطما(٢) بالطَّائف، فكان أوّل أطم بني بها.
  رثاؤه لأخيه نافع وقد قتل بدومة الجندل
  / أخبرني محمّد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدّثنا الزبير بن بكَّار، قال: حدّثني عمر بن أبي بكر الموصليّ عن عبد اللَّه بن مصعب عن أبيه قال:
  استشهد نافع بن سلمة الثّقفي مع خالد بن الوليد بدومة الجندل، فجزع عليه غيلان وكثر بكاؤه، وقال يرثيه:
  ما بال عيني لا تغمّص ساعة ... إلا اعترتني عبرة تغشاني
  أرعى نجوم الليل عند طلوعها ... وهنا وهنّ من الغروب دوان(٣)
  يا نافعا من للفوارس أحجمت ... عن فارس يعلو ذرى الأقران
  فلو آستطعت جعلت منّي نافعا ... بين اللَّهاة وبين عكد لساني(٤)
  قال: وكثر بكاؤه عليه، فعوتب في ذلك، فقال: واللَّه لا تسمح عيني بمائها فأصنّ به على نافع. فلمّا تطاول العهد انقطع ذلك من قوله، فقيل له فيه، فقال: «بلي نافع، وبلي الجرع، وفني وفنيت الدموع، واللَّحاق به قريب».
  صوت
  ألا علَّلاني قبل نوح الوادب ... وقبل بكاء المعولات القرائب
  وقبل ثوائي في تراب وجندل ... وقبل نشوز النفس فوق الترائب(٥)
  فإن تأتني الدّنيا بيومي فجاءة ... تجدني وقد قضّيت منها مآربي
  الشعر لحاجز الأزديّ، والغناء لنبيه هزج، بالبنصر، عن الهشامي.
(١) المرفقة: المتكأ والمخدة.
(٢) الأطم بضمتين: القصر وكل حصن مبني بحجارة، وكل بيت مربع مسطح.
(٣) الوهن: نحو منتصف الليل أو بعده بساعة.
(٤) اللهاة: قطعة من اللحم مشرفة على الحلق. والعكد: وسط الشيء.
(٥) نشوز النفس: ارتفاعها، كناية عن الاحتضار. وفي الأصول: «نشور» بالراء المهملة، تحريف.