أخبار عبد الرحمن ونسبه
  يتوثّب على كنائنه(١) بعد هجعة الناس - وكان عبد الرحن يتهم بذلك في امرأة أخيه - فخجل عبد الرحمن وقال: يا أمير المؤمنين، وما حملك على عزل ابن عمّك، ألجناية أو جبت سخطا، أم لرأي رأيته، وتدبير استصلحته؟ قال:
  لتدبير استصلحته. قال: فلا بأس بذلك، وخرج من عنده فلقي أخاه مروان، فأخبره بما جرى بينه وبين معاوية، فاستشاط غيظا، وقال لعبد الرحمن: قبحك اللَّه، ما أضعفك، أعرّضت للرجل بما أغضبه حتى إذا انتصف منك أحجمت عنه؟ ثم لبس حلَّته، وركب فرسه، وتقلَّد سيفه، ودخل على معاوية، فقال له حين رآه وتبيّن الغضب في وجهه: مرحبا بأبي عبد الملك، لقد زرتنا عند اشتياق منّا إليك. قال: لاها(٢) اللَّه ما زرتك لذلك، ولا قدمت عليك فألفيتك إلَّا عاقّا قاطعا، واللَّه / ما أنصفتنا ولا جزيتنا جزاءنا. لقد كانت السابقة من بني عبد شمس لآل أبي العاص، والصّهر برسول اللَّه ﷺ لهم، والخلافة فيهم، فوصلوكم يا بني حرب وشرّفوكم، وولَّوكم فما عزلوكم ولا آثروا عليكم، حتّى إذا ولَّيتم وأفضى الأمر إليكم، أبيتم إلا أثرة وسوء صنيعة، وقبح قطيعة، فرويدا رويدا، قد بلغ بنو الحكم وبنو بنيه نيّفا وعشرين، وإنما هي أيّام قلائل حتّى يكملوا أربعين ويعلم امرؤ أين يكون منهم حينئذ، ثم هم للجزاء بالحسنى وبالسوء بالمرصاد.
  قال عمّي في خبره: فقال له معاوية: عزلتك لثلاث لو لم يكن منهنّ إلَّا واحدة لأوجبت عزلك: إحداهنّ إنّي أمّرتك على عبد اللَّه بن عامر وبينكما ما بينكما، فلم تستطع أن تشتفي منه. والثانية كراهتك لأمر زياد. والثالثة أن ابنتي رملة استعدتك(٣) على زوجها عمرو بن عثمان فلم تعدها(٤). فقال له مروان: أما ابن عامر فإنّي لا أنتصر في سلطاني، ولكن إذا تساوت الأقدام علم أين موقعه. وأمّا كراهتي أمر زياد فإنّ سائر بني أمية كرهوه، ثم جعل اللَّه لنا في ذلك الكره خيرا كثيرا. وأما استعداء رملة على عمرو فو اللَّه إنّى لتأتي عليّ سنة أو أكثر وعندي بنت عثمان فما أكشف لها ثوبا - يعرّض بأن رملة إنما تستعدي عليه طلبا للنكاح - فقال له معاوية: يا ابن الوزغ(٥)، لست هناك.
  فقال له مروان: هو ذاك الآن، واللَّه إني لأبو عشرة وأخو عشرة وعمّ عشرة، وقد كاد ولدي أن يكملوا العدّة - يعني أربعين - ولو قد بلغوها لعلمت أين تقع منّي! فانخزل معاوية ثم قال:
  /
  فإن آك في شراركم قليلا ... فإنّي في خياركم كثير
  بغاث الطَّير أكثرها فراخا ... وأمّ الصّقر مقلات نزور(٦)
  قال: فما فرغ مروان من كلامه حتى استخذى معاوية في يده وخضع له، وقال: لك العتبى(٧)، وأنا رادّك إلى عملك. فوثب مروان وقال له: كلَّا واللَّه وعيشك لا رأيتني عائدا إليه أبدا. / وخرج، فقال الأحنف لمعاوية: ما رأيت لك قطَّ سقطة مثلها، ما هذا الخضوع لمروان؟ وأيّ شيء يكون منه ومن بني أبيه إذا بلغوا أربعين؟ وأيّ شيء تخشاه منهم؟ فقال له: ادن منّي أخبرك بذلك. فدنا منه، فقال له: إنّ الحكم بن أبي العاص كان أحد من وفد مع أختي أمّ حبيبة(٨) لما زفّت إلى النبيّ ﷺ، وهو الَّذي تولَّى نقلها إليه، فجعل رسول اللَّه ﷺ يحدّ النّظر إليه، فلما خرج من عنده قيل له: يا رسول اللَّه، لقد أحددت النّظر إلى الحكم! فقال: «ابن المخزومية؛ ذلك رجل إذا بلغ
(١) كنائن: جمع كنة بفتح الكاف: امرأة الأبن أو الأخ، وهو جمع نادر توهموا فيه «فعيلة» ونحوها، مما يجمع على فعائل.
(٢) ها، في مثل هذا الأسلوب للتنبيه دخلت على حرف القسم المحذوف، أو هي بدل من تاء القسم. انظر «مغني اللبيب» و «حاشية الأمير».
(٣) استعدتك: استغاثت بك واسنتصرتك.
(٤) أعداه عليه: نصره وأعانه.
(٥) الوزغ: جمع وزغة: سام أبرص، سميت بها لخفتها وسرعة حركتها.
(٦) بغاث الطير: أضعفها. والمقلات: الناقة الَّتي تضع واحدا ثم لا تحمل، والمرأة الَّتي لا يعيش لها ولد. والنزور: القليلة النسل.
(٧) العتبى بالضم: الرضا.
(٨) أم حبيبة، هي رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب، زوج الرسول ﷺ.