كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

أخبار معبد

صفحة 331 - الجزء 14

  قضيت حاجتك، وبلغت وطرا⁣(⁣١) مما أردته، ولست أحبّ أن أشرك في دمك. فقال: يا هذا! لا حاجة لي في الدنانير. فقلت: لا واللَّه ولا بعشرة أضعافها إلا على ثلاث شرائط. قال: وما هنّ؟ قلت: أولها أن تقيم عندي وتتحرّم بطعامي، والثانية أن تشرب أقداحا من النّبيذ تشدّ قلبك وتسكَّن ما بك، والثالثة أن تحدّثني بقصّتك. فقال:

  أفعل ما تريد. فأخذت الدنانير، ودعوت بطعام فأصاب منه إصابة معذر⁣(⁣٢)، ثم دعوت بالنبيذ فشرب أقداحا، وغنّيته بشعر غيره في معناه، وهو يشرب ويبكي. ثم قال: الشرط أعزّك اللَّه، فغنّيته، فجعل يبكي أحرّ بكاء وينشج⁣(⁣٣) أشدّ نشيج / وينتحب. فلما رأيت ما به قد خفّ عما كان يلحقه، ورأيت النّبيذ قد شدّ من قلبه، كررت عليه صوته مرارا، ثم قلت: حدّثني حديثك. فقال: أنا رجل من أهل المدينة خرجت متنزّها في ظاهرها وقد سال العقيق⁣(⁣٤)، في فتية من أقراني وأخداني⁣(⁣٥)، فبصرنا بقينات قد خرجن لمثل ما خرجنا له، فجلسن حجرة⁣(⁣٦) منّا، وبصرت فيهنّ بفتاة كأنها قضيب قد طلَّه الندى، تنظر بعينين ما ارتدّ طرفهما إلَّا بنفس من يلاحظهما. فأطلنا وأطلن، حتى تفرّق الناس، وانصرفن وانصرفنا، وقد أبقت بقلبي جرحا بطيئا اندماله⁣(⁣٧). فعدت إلى منزلي وأنا وقيذ⁣(⁣٨).

  وخرجت من الغد إلى العقيق، وليس به أحد، فلم أر لها ولا لصواحباتها أثرا. ثم جعلت أتتبّعها في طرق المدينة وأسواقها؛ فكأنّ الأرض أضمرتها، فلم أحسّ لها بعين ولا أثر، وسقمت حتى أيس منّي أهلي. ودخلت ظئري⁣(⁣٩) فاستعلمتني حالي، وضمنت لي حالها والسعي فيما أحبّه منها؛ فأخبرتها بقصّتي، فقالت: لا بأس عليك! هذه أيام الربيع، وهي سنة خصب وأنواء، وليس يبعد عنك المطر، وهذا العقيق، فتخرج حينئذ وأخرج معك؛ فإن النسوة سيجئن. فإذا فعلن ورأيتها تبعتها حتى أعرف موضعها، ثم أصل بينك وبينها، وأسعى لك في تزويجها. فكأنّ نفسي اطمأنت إلى ذلك، ووثقت به وسكنت إليه؛ فقويت وطمعت وتراجعت نفسي، وجاء مطر بعقب ذلك، فأسال الوادي، وخرج الناس وخرجت مع إخواني إليه، فجلسنا مجلسنا الأوّل بعينه، فما كنّا والنسوة إلا كفرسي رهان.

  وأومأت إلى ظئري فجلست حجرة منّا ومنهنّ، وأقبلت على إخواني فقلت: لقد أحسن القائل حيث قال:

  /

  رمتني بسهم أقصد⁣(⁣١٠) القلب وانثنت ... وقد غادرت جرحا به وندوبا

  فأقبلت على صواحباتها فقالت: أحسن واللَّه القائل، وأحسن من أجابه حيث يقول:

  بنا مثل ما تشكو، فصبرا لعلَّنا ... نرى فرجا يشفي السّقام قريبا

  فأمسكت عن الجواب خوفا من أن يظهر منّي ما يفضحني وإيّاها، وعرفت ما أرادت. ثم تفرّق الناس وانصرفنا، وتبعتها ظئري حتّى عرفت منزلها، وصارت إليّ فأخذت بيدي ومضينا إليها. فلم تزل تتلطَّف حتّى


(١) في الأصول: «نظرا» وهو تحريف، والوطر: الحاجة.

(٢) أعذر: أبدى عذرا، وثبت له عذر.

(٣) نشج الباكي كضرب نشيجا: وهو مثل بكاء الصبي إذا ضرب فلم يخرج بكاءه وردّد صوته في صدره.

(٤) العقيق: موضع بالمدينة مما يلي الحرة إلى منتهى البقيع.

(٥) أخدان: جمع خدان بالكسر، وهو الصديق.

(٦) حجرة: ناحية.

(٧) اندمل الجرح: برئ.

(٨) وقيذ: صريع.

(٩) الظئر: العاطفة على ولد غيرها المرضعة له.

(١٠) أقصده: طعنه فلم يخطئه.