كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

أخبار العباس بن مرداس ونسبه

صفحة 455 - الجزء 14

  لا أبصره فقال: بشّر الجنّ وأجناسها، أن وضعت المطيّ أحلاسها⁣(⁣١)، وكفّت⁣(⁣٢) السماء أحراسها، وأن يغصّ السّوق أنفاسها⁣(⁣٣)، قال: فوثبت مذعورا وعرفت أنّ محمّدا / رسول اللَّه مصطفى، فركبت فرسي وسرت حتّى انتهيت إليه فبايعته وأسلمت، وانصرفت إلى ضمار فأحرقته بالنار.

  خروجه إلى النبي وإسلامه

  وقال أبو عبيدة: كانت تحت العبّاس بن مرداس حبيبة بنت الضحّاك بن سفيان السّلمي أحد بني رعل⁣(⁣٤) بن مالك، فخرج عبّاس حتى انتهى إلى إبله وهو يريد النبيّ ، فبات بها، فلمّا أصبح دعا براعيه فأوصاه بإبله، وقال له: من سألك عنّي فحدّثه أنّي لحقت بيثرب، ولا أحسبني إن شاء اللَّه تعالى إلَّا آتيا محمّدا وكائنا معه، فإني أرجو أن نكون برحمة من اللَّه ونور، فإن كان خيرا لم أسبق إليه، وإن كان شرّا نصرته⁣(⁣٥) لخئولته، على أني قد رأيت الفضل البيّن وكرامة الدنيا والآخرة في طاعته ومؤازرته، واتّباعه ومبايعته، وإيثار أمره على جميع الأمور، فإن مناهج سبيله واضحة، وأعلام ما يجيء به من الحقّ نيرة، ولا أرى أحدا من العرب ينصب⁣(⁣٦) له إلا أعطي عليه الظفر والعلوّ، وأراني قد ألقيت عليّ محبّة له، وأنا باذل نفسي دون نفسه أريد بذلك رضا إله السماء والأرض، قال: ثم سار نحو النبيّ ، وانتهى الراعي نحو إبله، فأتى امرأته فأخبرها بالَّذي كان من أمره ومسيره إلى النبيّ ، فقامت فقوّضت بيتها، ولحقت بأهلها، فذلك حيث يقول عبّاس بن مرداس، حين أحرق ضمارا ولحق بالنبيّ :

  /

  لعمري إنّي يوم أجعل جاهدا ... ضمارا لربّ العالمين مشاركا

  وتركي رسول اللَّه والأوس حوله ... أولئك أنصار له، ما أولئكا؟⁣(⁣٧)

  / كتارك سهل الأرض، والحزن يبتغي ... ليسلك في غيب الأمور المسالكا

  فآمنت باللَّه الذّي أنا عبده ... وخالفت من أمسى يريد الممالكا

  ووجّهت وجهي نحو مكَّة قاصدا ... وتابعت بين الأخشبين المباركا⁣(⁣٨)


= والأوس والخزرج: ابنا حارثة بن ثعلبة العنقاء ومن بطون الخزرج بنو عدي بن النجار أخوال رسول اللَّه ، تزوج منهم جده هاشم سلمى بنت عمرو والنجارية أم عبد المطلب.

(١) أحلاس: جمع حلس بالكسر، وهو كساء على ظهر البعير تحت البرذعة.

(٢) في ب، س «ووكفت» وهو تحريف.

(٣) في الأصول «أن بعض» ولعل صوابه ما أثبتنا، أي وبشر الجن بأن يغص ... وبشّر هنا بمعنى أنذر، ويغص أنفاسها: يصيبها بغصة، والسوق: الدفع الشديد. والمعنى: لم يعد لها سلطان، وكانت العرب تعتقد أن الجن تأتي بخبر السماء فتلقيه في جوف الأصنام.

وجاء في رواية الروض الأنف: «عن عباس بن مرداس أنه كان في لقاح له نصف النهار، فاطلعت عليه نعامة بيضاء عليها راكب عليه ثياب بيض، فقال لي: يا عباس ألم تر أنّ السماء كفت أحراسها، وأن الحرب جرعت أنفاسها، وأن الخيل وضعت أحلاسها، وأن الَّذي نزل عليه البر والتقى يوم الاثنين ليلة الثلاثاء، صاحب الناقة القصواء. قال: فخرجت مرعوبا قد راعني ما رأيت، وسعيت حتى جئت وثنا لي يقال له الضمار كنا نعبده ونكلم من جوفه ...». والقصواء: الَّتي قطع طرف أذنها، وهو لقب ناقة رسول اللَّه ، ولم تكن ناقته قصواء، وإنما كان هذا لقبا لها، وقيل: كانت مقطوعة الأذن.

(٤) رعل: قبيلة من سليم.

(٥) في ج، ب «بصرته» وفي س «أبصرته» والصواب عن «ها» وهو تحريف.

(٦) نصب له: عاداه.

(٧) تركي، معطوف على أجعل المنزل منزلة المصدر، أي يوم جعلي ضمارا مشاركا وتركي. ما أولئكا: استفهام للتعظيم والتهويل.

(٨) الأخشبان: جبلان مطيفان بمكة، وهما أبو قبيس والأحمر. وفي ج «الأحسبين» وهو تصحيف.