كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

ذكر أحيحة بن الجلاح ونسبه وخبره والسبب الذي من أجله قال الشعر

صفحة 39 - الجزء 15

  / قال: فغنّاه أحسن غناء في الأرض، ولم آخذه منه اتّكالا على قدرتي عليه. واضطرب⁣(⁣١) الأمر على الفضل وصار إلى التغيّب، وشخص الشيخ إلى المدينة، فبقيت أنشد الشّعر وأسأل عنه مشايخ المغنّين، وعجائز المغنّيات، فلا أجد أحدا يعرفه، حتى قدمت البصرة، وكنت آتي جزيرتها في القيظ فأبيت بها ثم أبكر بالغداة إلى منزلي. فإنّي لداخل يوما إذا بامرأتين نبيلتين⁣(⁣٢)، قد قامتا فأخذتا بلجام حماري، فقلت لهما: مه! قال أبو زيد في خبره: فقالت إحداهما: كيف عشقك اليوم ل «ما أحسن الجيد من مليكة» وشغفك به، فقد بلغني أنّك كنت تطلبه من كلّ أحد؟

  وقد كنت رأيتك في مجلس الفضل وقد استخفّك الطَّرب لهذا الصوت حتّى صفّقت. قال: فقلت لها: أشدّ واللَّه ما كنت عشقا له، وقد ألهبت بذكرك إيّاه في قلبي جمرا، ولقد طلبته ببغداد كلَّها فلم أجد أحدا يسمعنيه. قالت:

  أفتحبّ أن أغنيّك إياه. قلت: نعم. فغنّته واللَّه أحسن ممّا سمعته قديما بصوت خافض، فنزلت إليها فقبّلت يديها ورجليها وقلت: جعلني اللَّه فداك، لو شئت لصرت معي إلى منزلي. قالت: أصنع ماذا؟ قلت: أغنّيك وتغنّيني يومنا إلى الليل. قالت: أنت واللَّه أطفس⁣(⁣٣) من أن تفعل ذاك، وإنّما هو عرض، ولكنّي أغنّيك حتّى تأخذه. فقلت: بأبي أنت وأمّي، وجعلني اللَّه فداك من أنت؟ قالت: أنا وهبة جارية محمّد بن عمران القرويّ، التي يقول فيها فرّوح⁣(⁣٤) الرّفاء الطَّلحي:

  صوت

  يا وهب لم يبق لي شيء أسرّ به ... إلَّا الجلوس فتسقيني وأسقيك⁣(⁣٥)

  وتمزجين بريق منك لي قدحا ... كأنّ فيه رضاب المسك من فيك

  يا أطيب النّاس ريقا غير مختبر ... إلَّا شهادة أطراف المساويك

  قد زرتنا زورة في الدّهر واحدة ... ثنّي ولا تجعليها بيضة الديك⁣(⁣٦)

  ما نلت منك سوى شيء أسرّ به ... ولست أبصر شيئا من مساويك⁣(⁣٧)

  قالت ملكت ولم تملك فقلت لها ... ما كلّ مالكة تزري بمملوك

  قال أبو زيد خاصّة: قال إسحاق: وأنشدتنيه وغنّتني فيه بصوت مليح قد صنعته فيه، ثم صارت إليّ بعد ذلك، وكانت من أحسن الناس غناء، وأحسنهم رواية. فما كانت تفوق فيه من صنعتها سائر الناس صوتها، وهو:

  صوت

  لا بدّ من سكرة على طرب ... لعلّ روحا يدال من كرب⁣(⁣٨)


(١) ما عدا ط، ح، مب، مط: «واطرب»، وهي لغة في اضطرب.

(٢) النبيلة: الجسيمة.

(٣) أطفس، من الطفس وهو القذارة. وهذا ما في ط، ح. وفي سائر النسخ: «أنفس».

(٤) ط، مب، مط: «فروج»، بالجيم.

(٥) شيء، في ط، مب، مط. وفي سائر النسخ: «شيئا».

(٦) بيضة الديك: مثل في الندرة، يقال إنه يبيض في العمر بيضة واحدة.

(٧) المساوي: مقابل المحاسن.

(٨) الروح: الراحة. يدال: يبدل. ما عدا ط، ح، مب، مط: «يداك» محرّف.