كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

رجع الحديث إلى سياقه

صفحة 211 - الجزء 15

  وجعلت نفقا آخر في البرّيّة متّصلا بمدينة لأختها، ثم أجرت الماء عليه، فكانت إذا خافت عدوّا دخلت النفق. فلما اجتمع لها أمرها واستحكم ملكها أجمعت على غزو جذيمة ثائرة بأبيها، فقالت لها أختها وكانت ذات رأي وحزم:

  إنّك إن غزوت جذيمة فإنّه امرؤ له ما يصدّه، فإن ظفرت أصبت ثأرك، وإن ظفر بك فلا بقيّة لك، والحرب سجال، / ولا تدرين كيف تكون⁣(⁣١) ألك أم عليك، ولكن ابعثي إليك فأعلميه أنّك قد رغبت في أن تتزوّجيه وتجمعي ملكك إلى ملكه، وسليه أن يجيبك إلى ذلك، لأنّه إن اغتر ففعل ظفرت به بلا مخاطرة. فكتبت الزباء في ذلك إلى جذيمة تقول له: إنها قد رغبت في صلة بلدها ببلده، وإنّها في ضعف من سلطانها، وقلَّة ضبط لمملكتها، وإنها لم تجد كفئا غيره، وتسأله الإقبال عليها وجمع ملكها إلى ملكه. فلما / وصل ذلك إليه استخفّه وطمع فيه، فشاور أصحابه فكلّ صوّب رأيه في قصدها وإجابتها، إلَّا قصير بن سعد بن عمرو بن جذيمة بن قيس بن هلال⁣(⁣٢) بن نمارة بن لخم، فقال: هذا رأي فاتر، وغدر حاضر، فإن كانت صادقة فلتقبل إليك وإلَّا فلا تمكنها من نفسك فتقع في حبالها وقد وترتها في أبيها. فلم يوافق جذيمة ما قال وقال له: «أنت أمرؤ رأيك في الكنّ لا في الضّحّ»⁣(⁣٣). ورحل فقال له قصير في طريقة: «انصرف ودمك في وجهك. فقال جذيمة:» ببقّة قضي الأمر «فأرسلها مثلا. ومضى حتّى إذا شارف مدينتها قال لقصير: ما الرأي؟ قال:» ببقّة تركت الرأي. قال: فما ظنّك بالزباء؟ قال:» القول رداف، والحزم عيرانة لا تخاف «(⁣٤). واستقبله رسلها بالهدايا والألطاف فقال: يا قصير، كيف ترى؟ قال» خطر يسير في خطب كبير «(⁣٥)، وستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فالمرأة صادقة، وإن أخذت في جنبيك وأحاطت بك فالقوم غادرون. فلقيته الخيول فأحاطت به، فقال له قصير: اركب العصا فإنّها لا تدرك ولا تسبق - يعني فرسا له كانت تجنب - قبل أن يحولوا بينك وبين جنودك. فلم يفعل، فجال قصير في ظهرها فمرّت به تعدو في أوّل أصحاب جذيمة. ولما أحيط بجذيمة التفت فرأى قصيرا على فرسه العصا في أوّل القوم، فقال:» لحازم من يجري العصا⁣(⁣٦) في أوّل القوم. فذكر / أبو عبيدة والأصمعي أنها لم تكن تقف، حتّى جرت ثلاثين ميلا، ثم وقفت فبالت هناك، فبني على ذلك الموضع برج يسمّى العصا - وأخذ جذيمة فأدخل على الزباء فاستقبلته قد كشفت عن فرجها، فإذا هي قد ضفرت الشعر عليه، فقالت: يا جذيم أذات عروس ترى؟ قال: بل أرى متاع أمة لكعاء غير ذات خفر. ثم قال:

  «بلغ المدى، وجفّ الثّرى، وأمر غدر أرى. قالت: واللَّه ما ذلك من عدم مواس⁣(⁣٧)، ولا قلة أواس⁣(⁣٨)، ولكنّها شيمة ما أناس⁣(⁣٩). ثم قالت لجواريها: خذن بعضد سيّدكنّ. ففعلن ثم دعت بنطع فأجلسته عليه، وأمرت برواهشه⁣(⁣١٠)


(١) في الأصول ما عدا ها، مب: «تكونين» تحريف.

(٢) عند ابن حبيب: «بن هليل بن دمى بن نمارة».

(٣) الكن: ما يرد الحر والبرد من الأبنية والمساكن. والضح: كل ما أصابته الشمس.

(٤) الرداف: جمع ردف، وهو الذي يركب خلف الراكب. والعيرانة: الناقة السريعة في نشاط. أراد أن الحزم يمضي في شأنه في ثقة ولا يعبأ بالقول، بل ربما حطمه. وكلمة «لا» ساقطة من ب، س و «الميداني»، إذ فيها: «عثراته تخاف»، وفي ح: «عيران لا يخاف»، وفي م، أ: «عراف لا يخاف».

(٥) في «الميداني»: «خطب يسير في خطب كبير».

(٦) في ب، س: «الحازم». ها، مب: «لحازم ما تجري» وفي سائر الأصول: «ما يجري». وفي «مروج الذهب»: (٢: ٩٤): «ما ضل من تجري به العصا». وفي «الميداني»: «ويل أمه حزما على متن العصا».

(٧) المواسي: جمع موسى التي يحلق الشعر بها.

(٨) الأواسي: جمع آسة، وهي كناية عن الخاتن في لغة أهل البادية.

(٩) هذا ما في ح و «مروج الذهب». و «ما» فيه زائدة. وفي سائر الأصول: «من أناس».

(١٠) الرواهش: عروق في باطن الذراع.