كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

خبر مقتل حجر بن عدي

صفحة 101 - الجزء 17

  إنّا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من عليّ واللَّعن له، فإن فعلتم هذا تركناكم، وإن أبيتم قتلناكم، وأمير المؤمنين يزعم أنّ دماءكم قد حلَّت بشهادة أهل مصركم عليكم، غير أنه قد عفا عن ذلك فابرؤا من هذا الرجل يخل سبيلكم. قالوا: لسنا فاعلين؛ فأمر⁣(⁣١) / بقيودهم⁣(⁣٢) فحلَّت، وأتي بأكفانهم فقاموا الليل كلَّه يصلَّون. فلما أصبحوا قال أصحاب معاوية: يا هؤلاء، قد رأيناكم البارحة أطلتم الصلاة، / وأحسنتم الدعاء، فأخبرونا ما قولكم في عثمان، قالوا: هو أوّل من جار في الحكم، وعمل بغير الحق. فقالوا: أمير المؤمنين كان أعرف بكم. ثم قاموا إليهم وقالوا: تبرؤن من هذا الرجل؟ قالوا: بل نتولَّاه.

  فأخذ كلّ رجل منهم رجلا يقتله، فوقع قبيصة في يدي أبي صريف البدريّ، فقال له قبيصة: إنّ الشرّ بين قومي وقومك أمين⁣(⁣٣)، أي آمن فليقتلني غيرك، فقال: برّتك رحم. فأخذ الحضرميّ فقتله.

  وقتل القضاعيّ صاحبه، ثم قال لهم حجر: دعوني أصلَّي ركعتين، فإني واللَّه ما توضّأت قطَّ إلَّا صلَّيت، فقالوا له: صلّ، فصلَّى ثم انصرف، فقال: واللَّه ما صليت صلاة قطَّ أقصر منها، ولولا أن يروا أنّ ما بي جزع من الموت لأحببت أن أستكثر منها، ثم قال: اللهم إنّا نستعديك على أمّتنا، فإنّ أهل الكوفة قد شهدوا علينا، وإن أهل الشأم يقتلوننا، أما واللَّه لئن قتلتمونا فإني أوّل فارس من المسلمين سلك⁣(⁣٤) في واديها، وأوّل رجل من المسلمين نبحته كلابها، فمشى إليه هدبة بن الفيّاض الأعور بالسيف، فأرعدت خصائله⁣(⁣٥)، فقال: كلَّا، زعمت أنك لا تجزع من الموت، فإنا ندعك، فابرأ من صاحبك. فقال: ما لي لا أجزع، وأنا أرى قبرا محفورا، وكفنا منشورا، وسيفا مشهورا، وإني واللَّه إن جزعت لا أقول ما يسخط الربّ، فقتله.

  أمر عبد الرحمن بن حسان وكريم بن عفيف مع معاوية

  وأقبلوا يقتلونهم واحدا واحدا حتى قتلوا ستّة نفر، فقال عبد الرحمن بن حسان وكريم بن عفيف⁣(⁣٦): ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين، فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته. فبعثوا إلى معاوية فأخبروه، فبعث: ائتوني بهما. فالتفتا إلى حجر، فقال له العنزيّ: لا تبعد يا حجر، ولا يبعد مثواك؛ فنعم أخو الإسلام كنت، وقال الخثعميّ نحو ذلك.

  ثم مضى بهما، فالتفت العنزيّ، فقال متمثلا:

  كفى بشفاة القبر⁣(⁣٧) بعد لهالك ... وبالموت قطَّاعا لحبل القرائن

  فلما دخل عليه الخثعميّ قال له: اللَّه اللَّه يا معاوية! إنك منقول من هذه الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة، ومسؤول عما أردت بقتلنا، وفيما سفكت دماءنا. فقال: ما تقول في علي؟ قال: أقول فيه قولك، أتبرأ من دين عليّ الذي كان يدين اللَّه به! وقام شمر بن عبد اللَّه الخثعميّ فاستوهبه، فقال: هو لك، غير أني حابسه شهرا، فحبسه، ثم


(١) في أ، م، ب، س: «فأمروا» والمثبت من المختار والطبري.

(٢) الطبري: «فأمر بقبورهم فحفرت».

(٣) س: «أمن»، وكذلك في الطبري.

(٤) أوالطبري: «هلك».

(٥) الخصيلة: القطعة من اللحم، أو لحم الفخذين والعضدين والذراعين، أو كل عصبة فيها لحم غليظ، والجمع خصائل. وفي «بيروت»: «فصائله».

(٦) أ: «عقيف».

(٧) شفاة القبر: حرفه ومدخله.