أخبار عزة الميلاء
  قال الواقديّ: فحدّثت بهذا الحديث يعقوب بن محمد الظفريّ، فقال: سمعت سعيد بن عبد الرحمن بن حسّان يقول: لما انقلب حسّان من مأدبة بني نبيط إلى منزله استلقى على فراشه، ووضع إحدى رجليه على الأخرى، وقال: لقد أذكرتني رائقة وصاحبتها أمرا ما سمعته أذناي بعيد ليالي جاهليتنا مع جبلة بن الأيهم! فقلت:
  يا أبا الوليد! أكان القيان يكنّ عند جبلة؟، فبتسّم ثم جلس، فقال: لقد رأيت عشر قيان: خمس روميّات يغنّين بالروميّة بالبرابط، وخمس يغنّين غناء أهل الحيرة، وأهداهنّ إليه إياس بن قبيصة، وكان يفد إليه من يغنّيه من العرب من مكَّة وغيرها، وكان إذا جلس للشرب فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضرب له العنبر والمسك في صحاف الفضة والذهب، وأتي بالمسك الصحيح في صحاف الفضة، وأوقد له العود المندّى(١) إن كان / شاتيا، وإن كان صائفا بطَّن بالثّلج، وأتي هو وأصحابه بكسا صيفيّة يتفضّل هو وأصحابه بها في الصيف، وفي الشتاء الفراء الفنك(٢)، وما أشبهه، ولا واللَّه ما جلست معه يوما قطَّ إلَّا خلع عليّ ثيابه التي عليه في ذلك اليوم، وعلى غيري من جلسائه، هذا مع حلم عمّن جهل، وضحك وبذل من غير مسألة، مع حسن وجه وحسن حديث، ما رأيت منه خنى قطَّ ولا عربدة، ونحن يومئذ على الشّرك، فجاء اللَّه بالإسلام فمحا به كلّ كفر، وتركنا الخمر وما كره، وأنتم اليوم مسلمون تشربون هذا النبيذ / من التّمر، والفضيخ(٣) من الزّهر والرّطب، فلا يشرب أحدكم ثلاثة أقداح حتى يصاحب صاحبته ويفارقها، وتضربون فيه كما تضرب غرائب الإبل فلا تنتهون!.
  أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، عن أبي أيوب المدينيّ، عن مصعب الزبيريّ، عن الضحّاك، عن عثمان بن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد مثله، وزاد فيه:
  فلما فرغنا من الطعام ثقل علينا جلوس حسّان، فأومأ ابنه إلى عزّة الميلاء فغنّت:
  انظر خليلي بباب جلَّق هل ... تبصر دون البلقاء من أحد
  فبكى حسّان حتى سدر(٤)، ثم قال: هذا عمل الفاسق، أما لقد كرهتم مجالستي، فقبّح اللَّه مجلسكم سائر اليوم، وقام فانصرف.
  أخبرني حرميّ، عن الزبير، عن عمه مصعب، قال:
  ذكر هشام بن عروة، عن أبيه: أنه دعي إلى مأدبة في زمن عثمان، ودعي / حسّان ومعه ابنه عبد الرحمن، ثم ذكر نحو ما ذكره عمر بن شبّة عن الأصمعيّ في الحديث الأول، قال(٥):
(١) في «بيروت»: «الهندي».
(٢) المختار: «بفراء الفنك»، والفنك: جنس من الثعالب أصغر من الثعلب المعروف وفروته من أحسن الفراء.
(٣) الفضيخ: عصير العنب، وشراب يتخذ من بسر مفضوخ وإن غلبه الماء. «القاموس».
(٤) سدر: أصابه شبه دوار وتحير.
(٥) ديوانه ١١٠.