ذكر مخارق وأخباره
  رحنا إلى الواثق وأمّه عليلة، فلمّا صلَّى المغرب دخل إلى أمه، وأمر بألَّا نبرح، وكان في الصّحن حصر غير مفروشة. فقال لي مخارق: امض بنا حتى نفرش(١) حصيرا من هذه الحصر فنجلس على بعضه ونتّكئ على المدرّج منه، وكانت ليلة مقمرة، فمضينا ففرشنا بعض تلك الحصر، واستلقينا وتحدثنا، وأبطأ الواثق عند أمّه، فاندفع مخارق فغنّى:
  أيا بيت ليلى إنّ ليلى عربية ... براذان لا خال لديها ولا ابن عم(٢)
  فاجتمع علينا الغلمان وخرج الواثق فصاح: يا غلام، فلم يجبه أحد، ومشى من المجلس إلى أن توسّط الدّار، فلما رأيته بادرت إليه، فقال: / لي: ويلك، هل حدث في داري شيء؟(٣) فقلت: لا يا سيّدي، فقال:
  فمالي أصيح فلا أجاب!(٣) فقلت: مخارق يغنّي والغلمان قد اجتمعوا عليه، فليس فيهم فضل لسماع غير ما يسمعونه منه، فقال: عذر واللَّه لهم يا بن حمدون، وأيّ عذر! ثم جلس وجلسنا بين يديه إلى السّحر.
  إبراهيم الموصلي يعرف جودة طبعه فيخصه بالتعليم
  وذكر هارون بن محمد بن عبد الملك أنّ مخارقا كان ينادي على اللَّحم الذي يبيعه أبوه، فيسمع له صوت عجيب، فاشترته عاتكة بنت شهدة وعلَّمته شيئا من الغناء ليس بالكثير، ثم باعته من آل الزّبير، فأخذه منهم الرّشيد وسلمه إلى إبراهيم الموصليّ، فأخذ عنه، وكان إبراهيم يقدّمه ويؤثره ويخصّه بالتّعليم لما تبيّنه منه ومن جودة طبعه.
  كان عبدا لعاتكة بنت شهدة الحاذقة بالغناء
  أخبرني عليّ بن عبد العزيز الكاتب قال: حدّثني ابن خرداذبه قال:
  كان مخارق بن يحيى بن ناووس الجزّار، وكان عبدا لعاتكة بنت شهدة، وكانت عاتكة أحذق الناس بالغناء، وكان ابن جامع يلوذ منها بالتّرجيع(٤) الكثير، فتقول له: أين يذهب بك؟ هلمّ إلى معظم الغناء ودعني من جنونك، قال: فحدّثني من حضرهما أنّ عاتكة أفرطت يوما في الردّ على ابن جامع بحضرة الرّشيد، فقال لها: أي أمّ العبّاس، أنا - يشهد اللَّه - أحبّ(٥) أن تحتك شعرتي بشعرتك، فقالت له: اسكت قطع اللَّه لسانك، ولم تعاود بعد ذلك أذيّته، قال: وكانت شهدة أمّ عاتكة نائحة. هكذا ذكر ابن خرداذبه، وليس الأمر في ذلك كما ذكره.
  محمد بن داود يغني الرشيد بلحن أخذه عن شهدة فيفوق المغنين
  حدّثني محمد بن يحيى الصّوليّ، قال: حدّثنا الغلابيّ، قال: حدّثني عليّ / بن محمد النّوفليّ عن عبد اللَّه بن
(١) في س، ف: «نبسط حصيرا».
(٢) راذان «بعد الألف ذال معجمة» الأسفل، وراذان الأعلى: كورتان بسواد بغداد تشتملان على قرى كثيرة، وأورد ياقوت في «معجمه» ٢ - ٧٣٠ البيت بعد قوله: وقال مرّة بن عبد اللَّه النهدي في راذان المدينة، وجاء بعده البيتان:
ويا بيت ليلى لو شهدتك أعولت ... عليك رجال من فصيح ومن عجم
ويا بيت ليلى لا يبست ولا تزل ... بلادك يسقيها من الواكف الدّيم
وفي ف: «بداران» بدل «براذان».
(٣ - ٣) ساقط من ف.
(٤) رجع صوته، وفيه: ردده في حلقه.
(٥) ف: «أشتهي».