كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

ذكر مخارق وأخباره

صفحة 486 - الجزء 18

  ما طار في مسامعي شيء قطَّ أحسن منه، فلما خرجت سألت عنه، فقال لي غلمانه: هذا أبو المهنّأ مخارق، فقلت فيه:

  أعاد اللَّه يوم أبي المهنّأ ... علينا إنّه يوم نضير⁣(⁣١)

  تغيّب نحسه عنّا وأرخى ... علينا وابل جود⁣(⁣٢) مطير

  فلمّا أن رأيت القطر فوقي ... وأقداحا يحثّ بها المدير

  وأسعدنا بصوت لو وعاه ... وليّ العهد خفّ به السّرير⁣(⁣٣)

  تذكَّرت الحبيب وأهل نجد ... وروضا نبته غضّ نضير

  قال: فقلت له: ولم ذكرت نجدا مع ما كنت فيه؟ وكان ينبغي لك أن تنساه، قال: كلَّا، إنّ المرء إذا كان فيما يحبّ تذكَّر أهله، قلت: فما غنّاك؟ قال: غنّاني:

  /

  وما روضة جاد الرّبيع بهطله ... عليها فروّاها ورقّت غصونها

  وهبّت عليها الرّيح حتى تبسّمت ... وحتى بدت فوق الغصون عيونها

  بأحسن منها إذ بدت وسط مجلس ... وفي يدها عود فصيح يزينها

  وقد أنطقته والشّمال جريّة ... على عقد ما تلقي عليها يمينها⁣(⁣٤)

  قال: فلم يزل يردّده عليّ حتى قضيت وطري من لذّتي، وحفظته عنه.

  غنى لإبراهيم الموصلي فجرت دموعه ونشج أحرّ نشيج

  أخبرني جحظة، قال: حدّثني حمّاد بن إسحاق، عن أبيه قال:

  دخلت على جدّك إبراهيم وهو جالس بين بابين له، ومخارق بين يديه يغنّيه:

  يا ربع بشرة إن أضرّ بك البلى ... فلقد رأيتك آهلا معمورا

  قال: واللَّحن الذي كان يغنّيه لمالك، وفيه عدّة ألحان مشتركة، فرأيت دموع أبي تجري عمى خدّيه من أربعة أماكن وهو ينشج أحرّ نشيج⁣(⁣٥)، فلمّا رآني قال: يا إسحاق هذا واللَّه صاحب اللواء غدا إن مات أبوك.

  رأى رؤيا فسّرها إبراهيم الموصلي بأن إبليس قد عقد له لواء صنعة الغناء

  أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني هارون بن مخارق، عن أبيه، قال:

  رأيت وأنا حدث كأنّ شيخا جالسا على سرير في روضة حسنة قد دعاني، فقال لي: غنّني يا مخارق، فقلت:

  أصوتا تقترحه أم ما حضر؟ فقال: ما حضر، فغنّيته بصنعتي في:


(١) ف: «يوم قصير».

(٢) الجود: المطر الغزير، وقد يأتي وصفا كما ورد في البيت.

(٣) في: «حف به السرور».

(٤) ف:

«ما تلقى عليه يمينها»

، والشمال: الريح التي تهب من جهة الشمال وتقابل الجنوب. والجرية: الوكيلة.

(٥) نشج الباكي نشيجا: غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب.