ذكر مخارق وأخباره
  صوت
  دعي القلب لا يزدد خبالا مع الذي ... به منك أو داوي جواه المكتّما
  وليس بتزويق اللسان وصوغه ... ولكنّه قد خالط اللَّحم والدّما
  / ولحن مخارق فيه ثقيل أول، وفيه لابن سريج رمل.
  قال: فقال لي: أحسنت يا مخارق، ثم أخذ وترا من أوتار العود فلفّه على المضراب، ودفعه إليّ، فجعل المضراب يطول ويغلظ، والوتر ينتشر ويعرض حتى صار المضراب كالرّمح، والوتر كالعذبة عليه، وصار في يدي علما، ثم انتبهت فحدّثت برؤياي إبراهيم الموصليّ، فقال لي: الشّيخ، بلا شك، إبليس، وقد عقد لك لواء صنعتك، فأنت ما حييت رئيس أهلها.
  قال مؤلَّف هذا الكتاب: وأظنّ أنّ الشاعر الذي مدح مخارقا إنما عنى هذه الرؤيا بقوله:
  لقد عقد الشّيخ الذي غرّ آدما ... وأخرجه من جنة وحدائق
  لواءي فنون للقريض وللغنا ... وأقسم لا يعطيهما غير حاذق
  أرسل الواثق جواريه إلى بيته ليصحح لهن صوتا
  وذكر محمد بن الحسن الكاتب، أنّ هارون بن مخارق حدّثه فقال:
  كان الواثق شديد الشّغف بأبي، وكان قد اقتطعه عنّا، وأمر له بحجرة في قصره، وجعل له يوما في الأسبوع لنوبته في منزله، وكان جواريه يختلفن(١) لذلك اليوم، قال: فانصرف إلينا مرّة في نوبته فصلَّى الغداة مع الفجر على أسرّة في صحن الدّار في يوم صائف وجلس يسبّح، فما راعنا إلا خدم بيض قد دخلوا فسلَّموا عليه وقالوا:
  إن أمير المؤمنين قد دعا بنا في هذه الساعة، فأعدنا عليه الصوت الذي طرحته علينا فلم يرضه من أحد منا، وأمرنا بالمصير إليك لنصحّحه عليك، قال: فأمر غلمانه فطرحوا لهم عدّة كراسيّ فجلسوا عليها، ثم قال لهم:
  ردّوا الصوت، فردّوه، فلم يرضه من أحد منهم، فدعا بجاريته عميم، فردّته عليهم، فلم يرضه منها، قال:
  / فتحوّل إليهم ثم اندفع فردّ الصوت على الخدم، فخرج الوصائف من حجر جواريه حتى وقفن حوالي الأسرّة، ودخل غلام من غلمانه وكان يستقي الماء، فهجم على الصّحن بدلوه، وجاءت جارية على كتفها جرّة من جرار المزمّلات(٢)، حتى وقفت بالقرب منه، قال: وسبقتني عيناي فما كففت دموعها(٣) حتى فاضت.
  ثمّ قطع الصوت حين استوفاه، فرجع الوصائف الأصاغر سعيا إلى حجر الجواري، وخرج الغلام السّقّاء يشتدّ إلى بغلة، ورجعت الجارية الحاملة الجرة المزمّلة شدّا إلى الموضع الذي خرجت منه، فتبسّم أبي وقال: ما شأنك يا هارون؟ فقلت: يا أبت جعلني اللَّه فداءك، ما ملكت عيني، قال: وأبوك أيضا لم يملك عينه.
  نام في بيت إبراهيم بن المهدي وهو يغني ثم انتبه وأكمل الغناء
  وذكر هارون بن الزّيات عن أصحابه قال:
(١) في ما، ف: «يحتففن».
(٢) المزملات: جمع مزمّلة؛ وهي الجرة يبرد فيها الماء، وفي وسطها ثقب فيه قصبة من الفضة أو الرصاص يشرب منها (عراقية).
(٣) ف: «دموعهما».