كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

أخبار أبي حشيشة

صفحة 64 - الجزء 23

  مع إبراهيم بن المهدي:

  قال أبو حشيشة: سمع إبراهيم بن المهديّ أصواتا من غناء محمد بن الحارث بن بسخنّر وعمرو بن بانة، فاستحسنها وأخذها جواريه، وقال: الطَّنبور كلَّه باطل، فإن كان فيه شيء حقّ فهذا. وأشتهي⁣(⁣١) أن يسمعني. فهبته هيبة شديدة، وقلت: إن رضيني لم يزد ذلك في قدري، وإن لم يرضني بقيت وصمة آخر الدهر، وكان يطلبني من محمد بن الحارث بن بسخنّر خاصة، ومن إسحاق بن عمرو بن بزيع، فكنت أفرّ منهما، حتى صرت بسرّ من رأى، وأنا في تلك الأيام منقطع إلى أبي أحمد بن الرشيد، ونحن في مضارب⁣(⁣٢) لم نكن سكنّا المنازل بعد، فوافى إلى أبي أحمد بن الرشيد رسول إبراهيم بن المهدي فأبلغه السّلام، وقال: يقول لك عمّك: قد أعيتني الحيل في هذا الخبيث، وأنا أحبّ أن أسمعه، وهو يهرب مني، فأحبّ أن تبعث به إليّ، ويكون زيرب⁣(⁣٣) معه تؤنسه. فقال لي:

  أبو أحمد: لا بدّ أن تمضي إلى عمي، فجهدت كلّ الجهد أن يعفيني، فأبى، فلما رأيت أنه لا بدّ لي منه لبست ثيابي، ومضيت إليه، وهو نازل في دسكرة، فرحّب بي / وقرّب، وبسطني كلّ البسط ومعي زيرب، ودعا بالنبيذ، وأمر خدما له كبارا، فجلسوا معي وشربوا وسقوني. وعرض لي بكلّ حيلة أن أغنّي، فهبته هيبة شديدة، وحصرت.

  وشرب، ودعا بثلاث جوار، فخرجت وجلسن، وقال لهن: قلن:

  صوت

  كيف احتيالي وأنت لا تصل ... عيل اصطباري وقلَّت الحيل

  إن كان جسمي هواك ينحله ... فإن قلبي عليك يتّكل

  الشعر لخالد الكاتب، والغناء لأبي حشيشة رمل. وكان يسميه الرّهبانيّ، عمله على لحن من ألحان النصارى سمعه من رهبان في الليل يردّدونه، فغنّاه عليه.

  فقالته إحداهنّ، فذهب عقلي، وسمعت شيئا لم أسمع مثله قطَّ، فقال: يا خليلي، أهذا لك؟ فقلت: نعم - أصلح اللَّه الأمير - وأخذتني رعدة، ثم قال لهنّ: إيه، قلن:

  صوت

  ربّ مالي وللهوى ... ما لهذا الهوى دوا

  حاز طرفي الذي هوى ال ... حسن قلبي وما حوى

  الشعر لخالد، والغناء لأبي حشيشة رمل.

  فغنّته فسمعت ما هو أعجب من الأول، فقال: يا خليلي، هذا لك؟ قلت: نعم يا سيدي، قال: هكذا أخذناهما من محمد بن الحارث، ثم شرب رطلا آخر، فقلت: يا نفس⁣(⁣٤)، دعاك الرجل يسمعك، أو يسمعك، وقوّيت عزمي، وتغنّيته بشعر خالد الكاتب، وهو هذا:


(١) ب، س: «لو اشتهيت».

(٢) مضارب: جمع مضرب، وهو الفسطاط.

(٣) ب، س: «ربرب».

(٤) هج: «فقلت لنفسي».