2 - ذكر معبد وبعض أخباره
  أسيد بن أبي العيص بن أميّة، فضحكوا منه وهزئوا به، فأنشأ يغنّي(١):
  فضحتم قريشا بالفرار وأنتم ... قمدّون(٢) سودان(٣) عظام المناكب
  فأمّا القتال لا قتال لديكم ... ولكنّ سيرا في عراض المواكب
  - وهذا شعر هجوا به قديما - فقاموا إليه ليتناولوه؛ فمنعهم العثمانيّ من ذلك وقال: ضحكتم منه حتى إذا أحفظتموه(٤) أردتم أن تتناولوه، لا واللَّه لا يكون ذلك! قال إسحاق: فحدّثني ابن سلَّام قال أخبرني من رآه على هذه الحال فقال له: أصرت إلى ما أرى؟ فأشار إلى حلقه وقال: إنّما كان هذا؛ فلمّا ذهب ذهب كلّ شيء.
  اعتراف المغنين لمعبد بالتفوق والسبق في صناعة الغناء
  قال إسحاق: كان معبد من أحسن الناس غناء، وأجودهم صنعة، وأحسنهم حلقا(٥)؛ وهو فحل المغنّين وإمام أهل المدينة في الغناء، وأخذ عن سائب خاثر، ونشيط مولى عبد اللَّه بن جعفر، وعن جميلة مولاة بهز (بطن من سليم)، وكان زوجها مولى لبني الحارث بن الخزرج؛ فقيل لها مولاة الأنصار لذلك. وفي معبد يقول الشعر:
  أجاد طويس والسّريجي بعده ... وما قصبات السّبق إلا لمعبد
  / قال إسحاق قال ابن الكلبيّ عن أبيه: كان ابن أبي عتيق خرج إلى مكة فجاء معه ابن سريج إلى المدينة، فأسمعوه غناء معبد وهو غلام، وذلك في أيام مسلم بن عقبة المرّيّ، وقالوا: ما تقول فيه؟ فقال: إن عاش كان مغنّي بلاده. ولمعبد صنعة لم يسبقه إليها من تقدّم، ولا زاد عليه فيها من تأخّر. وكانت صناعته التجارة في أكثر أيام رقّه، وربّما رعى الغنم لمواليه، وهو مع ذلك يختلف إلى نشيط الفارسيّ وسائب خاثر مولى عبد اللَّه بن جعفر، حتى اشتهر بالحذق وحسن الغناء وطيب الصّوت. وصنع الألحان فأجاد واعترف له بالتقدّم على أهل عصره.
  أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حمّاد قرأت على أبي:
  قال الجمحيّ: بلغني أن معبدا قال: واللَّه لقد صنعت ألحانا لا يقدر شبعان ممتلئ ولا سقّاء يحمل قربة على الترنّم بها ولقد صنعت ألحانا لا يقدر المتّكئ أن يترنّم بها حتى يقعد مستوفزا(٦)، ولا القاعد حتى يقوم.
  قال إسحاق: وبلغني أن معبدا أتى ابن سريج وابن سريج لا يعرفه، فسمع منه ما شاء، ثم عرض نفسه عليه وغنّاه وقال له: كيف كنت تسمع جعلت فداءك؟ فقال له: لو شئت كنت قد كفيت بنفسك الطلب من غيرك. قال:
  وسمعت من لا أحصي من أهل العلم بالغناء يقولون: لم يكن فيمن غنّى أحد أعلم بالغناء من معبد. قال: وحدّثني أيّوب بن عباية قال: دخلت على الحسن بن مسلم أبي العراقيب وعنده جاريته عاتكة، فتحدّث فذكر معبدا فقال:
(١) كذا في ت، ح، ر. وفي سائر النسخ: «يقول».
(٢) في جميع الأصول: «تمدّون» بالتاء وهو تحريف. والتصويب عن «خزانة الأدب» للبغداديّ. والقمدّ (بضم القاف والميم وتشديد الدال): القويّ الشديد.
(٣) سودان: جمع سود وهو جمع أسود، من السيادة. والشعر للحارث بن خالد المخزوميّ. (انظر «البغدادي» طبع بولاق ج ١ ص ٢١٧).
(٤) أغضبتموه.
(٥) كذا في ت بالحاء المهملة، وفي سائر النسخ: «خلقا» بالخاء المعجمة.
(٦) قعدة المستوفز، هي قعدة الجالس على هيئة كأنه يريد القيام.