أخبار هلال ونسبه
  فحمل معروضا على بعير وركبت أخته جماء(١) بنت الأسعر معه، وجعل يقول: قتلتني بنو جعدة! وتأتيه أخته بمغرة(٢) فيشربها فيقال: يمشي(٣) بالدّم، لأن بني جعدة فرثوا(٤) كبده في جوفه. فلمّا بلغوا أدنى بلاد بكر بن وائل قال الجلَّانيّون لمعاذ وأصحابه: أدام اللَّه عزّكم، وقد وفيتم فانصرفوا. وجعل هلال يريهم أنّه يمشي في اللَّيلة عشرين مرّة. فلمّا ثقل الجلَّانيّ وتخوّف هلال أن يموت من ليلته أو يصبح ميّتا، تبرّز هلال كما كان يصنع وفي رجله الأدهم كأنه يقضي حاجة، ووضع كساءه على عصاه في ليلة ظلماء، ثم اعتمد على الأدهم فحطمه، ثم طار تحت ليلته على رجليه، وكان أدلّ الناس فتنكَّب الطَّريق التي تعرف ويطلب فيها / وجعل يسلك المسالك التي لا يطمع فيها. حتّى انتهى إلى رجل من بني أثاثة بن مازن يقال له السّعر بن يزيد بن طلق(٥) بن جبيلة بن أثاثة بن مازن، فحمله السّعر على ناقة له يقال لها ملوة، فركبها ثمّ تجنّب بها الطريق / فأخذ نحو بلاد قيس بن عيلان، تخوّفا من بني مازن أن يتبعوه أيضا فيأخذوه، فسار ثلاث ليال وأيّامها حتّى نزل اليوم الرّابع، فنحر الناقة فأكل لحمها كلَّه إلا فضلة فضلت منها فاحتملها، ثم أتى بلاد اليمن فوقع بها، فلبث زمانا وذلك عند مقام(٦) الحجاج بالعراق، فبلغ إفلاته من بالبصرة من بكر بن وائل، فانطلقوا إلى الحجّاج فاستعدوه وأخبروه بقتله صاحبهم؛ فبعث الحجاج إلى عبد اللَّه بن شعبة بن العلقم، وهو يومئذ عريف بني مازن حاضرتهم وباديتهم، فقال له: لتأتينّي بهلال أو لأفعلنّ بك ولأفعلن؛ فقال له عبد اللَّه بن شعبة: إن أصحاب هلال وبني عمّه قد صنعوا كذا وكذا: فاقتصّ عليه ما صنعوا في طلبه وأخذه ودفعه إلى الجلَّانيّين وتشييعهم إيّاه حتّى وردوا بلاد بكر بن وائل؛ فقال له الحجّاج: ويلك! ما تقول؟
  قال فقال بعض البكريّين: صدق، أصلح اللَّه الأمير؛ قال فقال الحجّاج: فلا يرغم اللَّه إلَّا أنوفكم(٧)، اشهدوا أنّي قد آمنت كلّ قريب لهلال وحميم وعريف ومنعت من أخذ أحد به ومن طلبه حتّى يظفر به البكريّون أو يموت قبل ذلك.
  فلمّا وقع هلال إلى بلاد اليمن بعث إلى بني رزام بن مازن(٨) بشعر يعاتبهم فيه ويعظَّم عليهم حقّه ويذكر قرابته، وذلك أنّ سائر بني مازن قاموا ليحملوا ذلك الدّم، فقال معاذ: / لا أرضى واللَّه أن يحمل لجاري دم واحد حتى يحمل له دم ولجواري دم آخر، وإن أراد هلال الأمان وسطنا حمل له دم ثالث؛ فقال هلال في ذلك:
  بني مازن لا تطردوني فإنّني ... أخوكم وإن جرّت جرائرها(٩) يدي
  ولا تثلجوا أكباد بكر بن وائل ... بترك أخيكم كالخليع المطرّد
  ولا تجعلوا حفظي بظهر وتحفظوا ... بعيدا ببغضاء يروح ويغتدي(١٠)
  فإنّ القريب حيث كان قريبكم ... وكيف بقطع الكفّ من سائر اليد
(١) كذا في ب، س، ح. وفيء، أ، م «حماء» بالحاء المهملة والمد وفي ط: «حما» بالحاء المهملة مقصورا.
(٢) المغرة (بالفتح وبالتحريك): طين أحمر يصبغ به.
(٣) أمشى الرجل: استطلق بطنه من دواء تناوله.
(٤) فرثوا كبده: ضربوها وهو حيّ.
(٥) في ط، ء: «علق» وفي أ، م: «على».
(٦) كذا في ب، س، ح. وفي باقي الأصول: «عند مقدم الحجاج العراق».
(٧) كذا في أكثر الأصول، وفي س: «أنوفهم».
(٨) كذا في ط، ح، ء. وفي سائر النسخ: «مالك» ومالك جد رزام لا أبوه (راجع أول هذه الترجمة).
(٩) الجرائر: جمع جريرة وهي الذنب والجناية.
(١٠) كذا في ط، ء. وهو الأقرب إلى الصواب. وفي باقي النسخ: «تروح وتغتدي» بالتاء.