كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

2 - ذكر معبد وبعض أخباره

صفحة 67 - الجزء 1

  لم يسمعا بمثله قطَّ. فأقبل أحدهما على صاحبه فقال: هل سمعت كاليوم قطَّ؟ قال: لا واللَّه! فما رأيك؟ قال ابن سريج: هذا غناء غلام يصيد الطير، فكيف بمن في الجوبة⁣(⁣١)! - يعني المدينة - قال: أمّا أنا فثكلته والدته إن لم أرجع. قال: فكراَّ راجعين.

  قدوم معبد مكة وما وقع بينه وبين الغريض

  قال: وقال معبد: قدمت مكة، فذهب بي بعض القرشيّين إلى الغريض، فدخلنا عليه وهو متصبّح⁣(⁣٢)، فانتبه من صبحته وقعد، فسلَّم عليه القرشيّ، وسأله فقال له: هذا معبد قد أتيتك به، وأنا أحبّ / أن تسمع منه. قال: هات، فغنّيته أصواتا. فقال بمدرى⁣(⁣٣) معه في رأسه، ثم قال: إنك يا معبد لمليح الغناء. قال: / فأحفظني ذلك، فجثوت على ركبتيّ، ثم غنّيته من صنعتي عشرين صوتا لم يسمع بمثلها قطَّ، وهو مطرق واجم قد تغيّر لونه حسدا وخجلا.

  ما وقع بين معبد وبين حكم الوادي

  قال إسحاق: وأخبرت عن حكم الواديّ قال: كنت أنا وجماعة من المغنّين نختلف إلى معبد نأخذ عنه ونتعلَّم منه، فغناَّنا يوما صوتا من صنعته وأعجب به، وهو:

  القصر فالنخل فالجمّاء بينهما

  فاستحسنّاه وعجبنا منه. وكنت في ذلك اليوم أوّل من أخذه عنه واستحسنه منّي فأعجبتني نفسي. فلما انصرفت من عند معبد عملت فيه لحنا آخر وبكَّرت على معبد مع أصحابي وأنا معجب بلحني. فلما تغنّينا أصواتا قلت له: إنّي قد عملت بعدك في الشعر الذي غنّيتناه لحنا، واندفعت فغنّيته صوتي، فوجم معبد ساعة يتعجّب منّي ثم قال: قد كنت أمس أرجى منّي لك اليوم، وأنت اليوم عندي أبعد من الفلاح. قال حكم: فأنسيت - يعلم اللَّه - صوتي ذلك منذ تلك الساعة فما ذكرته إلى وقتي هذا.

  ما وقع بين معبد وهو في طريقه إلى بعض أمراء الحجاز وبين العبد الأسود

  قال إسحاق: وقال معبد: بعث إليّ بعض أمراء الحجاز - وقد كان جمع له الحرمان - أن اشخص إلى مكة، فشخصت. قال: فتقدّمت غلامي في بعض تلك الأيام، واشتدّ عليّ الحرّ والعطش، فانتهيت إلى خباء فيه أسود وإذا حباب⁣(⁣٤) ماء قد برّدت، فملت إليه فقلت: يا هذا، اسقني من هذا الماء. فقال لا. فقلت: فأذن لي في الكنّ⁣(⁣٥) ساعة. قال لا. فأنخت ناقتي ولجأت إلى ظلَّها فاستترت به، وقلت: لو أحدثت لهذا الأمير شيئا من الغناء أقدم به


(١) كذا في الأصل. وقد ذكر ياقوت للمدينة تسعة وعشرين اسما لم يذكر من بينها هذا الاسم. وأقرب الأسماء إليه «المحومة». فلعل ما هنا محرّف عنه، أو أنه هو الذي أطلق هذا الاسم على المدينة؛ لأن الجوبة هي الموضع ينجاب في الحرّة، والمدينة بين حرّتين تكتنفانها.

(٢) التصبّح: النوم بالغداة.

(٣) قال ابن الأثير: العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: قال بيده أي أخذ، وقال برجله أي مشى

وقالت له العينان سمعا وطاعة

أي أو مأت؛ ومنه الحديث «قال بالماء على يده» أي قلب، و «قال بثوبه هكذا» أي رفعه، وكل ذلك على المجاز والاتّساع. فهو هنا من هذا القبيل. والمراد أنه حكّ رأسه بهذه المدرى، وهي حديدة يحكّ بها الرأس.

(٤) جمع حب (بالضم) وهي الجرّة صغيرة كانت أو كبيرة.

(٥) الكنّ: ما وقاك من حرّ أو برد، أي ائذن لي في أن أستظلّ بكنك ساعة من جهد الحرّ والعطش.