كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

2 - ذكر معبد وبعض أخباره

صفحة 68 - الجزء 1

  عليه، ولعلَّي إن حرّكت لساني أن يبلّ حلقي اريقي فيخفّف عنّي بعض ما أجده من العطش! فترنّمت بصوتي:

  القصر فالنخل فالجمّاء بينهما

  / فلما سمعني الأسود، ما شعرت به إلا وقد احتملني حتى أدخلني خباءه، ثم قال: أي، بأبي أنت وأمي! هل لك في سويق السّلت⁣(⁣١) بهذا الماء البارد؟ فقلت: قد منعتني أقلّ من ذلك، وشربة ماء تجزئني. قال: فسقاني حتى رويت، وجاء الغلام فأقمت عنده إلى وقت الرّواح. فلما أردت الرّحلة قال: أي، بأبي أنت وأمي! الحرّ شديد ولا آمن عليك مثل الذي أصابك، فأذن لي [في]⁣(⁣٢) أن أحمل معك قربة من ماء على عنقي وأسعى بها معك، فكلَّما عطشت سقيتك صحنا وغنّيتني صوتا! قال: قلت ذاك لك. فو اللَّه ما فارقني يسقيني وأغنّيه حتى بلغت المنزل.

  نسخت من كتاب جعفر بن قدامة بخطَّه: حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الزّبير⁣(⁣٣) عن جرير قال:

  معبد وابن سريج، التقاؤهما عفوا ببطن مرّ ثم تعارفهما بصوتيهما

  كان معبد خارجا إلى مكة في بعض أسفاره، فسمع في طريقه غناء في «بطن مرّ»⁣(⁣٤) فقصد الموضع، فإذا رجل جالس على حرف بركة فارق شعره حسن الوجه، عليه درّاعة⁣(⁣٥) قد صبغها بزعفران، وإذا هو يتغنّى:

  صوت

  حنّ قلبي من بعد ما قد أنابا ... ودعا الهمّ شجوه فأجابا

  ذاك من منزل لسلمى خلاء ... لابس من خلائه جلبابا

  عجبت فيه وقلت للرّكب عوجوا⁣(⁣٦) ... طمعا أن يردّ ربع جوابا

  فاستثار المنسيّ من لوعة الحب وأبدى ... الهموم والأوصابا

  / / فقرع معبد بعصاه وغنّى:

  منع الحياة من الرجال ونفعها ... حدق تقلَّبها النساء مراض

  وكأنّ أفئدة الرجال إذا رأوا ... حدق النساء لنبلها أغراض

  فقال له ابن سريج: باللَّه أنت معبد؟ قال: نعم، وباللَّه⁣(⁣٧) أنت ابن سريج؟ قال: نعم، وو اللَّه لو عرفتك ما غنّيت بين يديك.


(١) قال الليث: السّلت: شعير لا قشر له أجرد؛ زاد الجوهريّ كأنه الحنطة، يكون بالغور والحجاز، يتبرّدون بسويقه في الصيف.

والسويق: ما يتخذ من الحنطة والشعير.

(٢) زيادة في ت. وفي أ، م، ء: «بأن».

(٣) في ح، ر: «الزبيري».

(٤) بطن مرّ (بفتح الميم وتشديد الراء): من نواحي مكة عنده يجتمع وادي النخلتين فيصيران واديا واحدا (ياقوت). وقال في «القاموس»: إنه موضع على مرحلة من مكة ويقال له: «مرّ الظهران».

(٥) الدّرّاعة: جبة مشقوقة المقدّم.

(٦) في «الديوان»:

ظلت فيه والركب حولى وقوف

وعجت فيه: وقفت به وأقمت

(٧) في أ، ب، س، م، ء: «قال نعم، فسألته أأنت ابن سريج الخ».