2 - ذكر معبد وبعض أخباره
  عليه، ولعلَّي إن حرّكت لساني أن يبلّ حلقي اريقي فيخفّف عنّي بعض ما أجده من العطش! فترنّمت بصوتي:
  القصر فالنخل فالجمّاء بينهما
  / فلما سمعني الأسود، ما شعرت به إلا وقد احتملني حتى أدخلني خباءه، ثم قال: أي، بأبي أنت وأمي! هل لك في سويق السّلت(١) بهذا الماء البارد؟ فقلت: قد منعتني أقلّ من ذلك، وشربة ماء تجزئني. قال: فسقاني حتى رويت، وجاء الغلام فأقمت عنده إلى وقت الرّواح. فلما أردت الرّحلة قال: أي، بأبي أنت وأمي! الحرّ شديد ولا آمن عليك مثل الذي أصابك، فأذن لي [في](٢) أن أحمل معك قربة من ماء على عنقي وأسعى بها معك، فكلَّما عطشت سقيتك صحنا وغنّيتني صوتا! قال: قلت ذاك لك. فو اللَّه ما فارقني يسقيني وأغنّيه حتى بلغت المنزل.
  نسخت من كتاب جعفر بن قدامة بخطَّه: حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الزّبير(٣) عن جرير قال:
  معبد وابن سريج، التقاؤهما عفوا ببطن مرّ ثم تعارفهما بصوتيهما
  كان معبد خارجا إلى مكة في بعض أسفاره، فسمع في طريقه غناء في «بطن مرّ»(٤) فقصد الموضع، فإذا رجل جالس على حرف بركة فارق شعره حسن الوجه، عليه درّاعة(٥) قد صبغها بزعفران، وإذا هو يتغنّى:
  صوت
  حنّ قلبي من بعد ما قد أنابا ... ودعا الهمّ شجوه فأجابا
  ذاك من منزل لسلمى خلاء ... لابس من خلائه جلبابا
  عجبت فيه وقلت للرّكب عوجوا(٦) ... طمعا أن يردّ ربع جوابا
  فاستثار المنسيّ من لوعة الحب وأبدى ... الهموم والأوصابا
  / / فقرع معبد بعصاه وغنّى:
  منع الحياة من الرجال ونفعها ... حدق تقلَّبها النساء مراض
  وكأنّ أفئدة الرجال إذا رأوا ... حدق النساء لنبلها أغراض
  فقال له ابن سريج: باللَّه أنت معبد؟ قال: نعم، وباللَّه(٧) أنت ابن سريج؟ قال: نعم، وو اللَّه لو عرفتك ما غنّيت بين يديك.
(١) قال الليث: السّلت: شعير لا قشر له أجرد؛ زاد الجوهريّ كأنه الحنطة، يكون بالغور والحجاز، يتبرّدون بسويقه في الصيف.
والسويق: ما يتخذ من الحنطة والشعير.
(٢) زيادة في ت. وفي أ، م، ء: «بأن».
(٣) في ح، ر: «الزبيري».
(٤) بطن مرّ (بفتح الميم وتشديد الراء): من نواحي مكة عنده يجتمع وادي النخلتين فيصيران واديا واحدا (ياقوت). وقال في «القاموس»: إنه موضع على مرحلة من مكة ويقال له: «مرّ الظهران».
(٥) الدّرّاعة: جبة مشقوقة المقدّم.
(٦) في «الديوان»:
ظلت فيه والركب حولى وقوف
وعجت فيه: وقفت به وأقمت
(٧) في أ، ب، س، م، ء: «قال نعم، فسألته أأنت ابن سريج الخ».