2 - ذكر معبد وبعض أخباره
  وغلبت عليه، ثم ماتت بعد أن أقامت عنده برهة(١) من الزمان وأخذ جواريه أكثر غنائها عنها، فكان لمحبّته إيّاها وأسفه عليها لا يزال يسأل عن أخبار معبد وأين مستقرّه، ويظهر التعصّب له والميل إليه والتقديم لغنائه على سائر أغاني أهل عصره إلى أن عرف ذلك منه. وبلغ معبدا خبره، فخرج من مكة حتى أتى البصرة، فلمّا وردها صادف الرجل قد خرج عنها في ذلك اليوم إلى الأهواز فاكترى سفينة. وجاء معبد يلتمس سفينة ينحدر فيها إلى الأهواز، فلم يجد غير سفينة الرجل، وليس يعرف أحد منهما صاحبه، فأمر الرجل الملَّاح أن يجلسه معه في مؤخّر السفينة ففعل وانحدروا. فلما صاروا في فم نهر الأبلَّة(٢) / تغدّوا وشربوا، وأمر جواريه فغنّين، ومعبد ساكت وهو في ثياب السّفر، وعليه فرو وخفّان غليظان وزيّ جاف من / زيّ أهل الحجاز، إلى أن غنّت إحدى الجواري:
  صوت
  بانت سعاد وأمسى حبلها انصرما ... واحتلَّت الغور فالأجزاع من إضما(٣)
  إحدى بليّ وما هام الفؤاد بها ... إلَّا السفاه وإلَّا ذكرة حلما(٤)
  - قال حمّاد: والشعر للنابغة الذّبيانيّ. والغناء لمعبد، خفيف ثقيل أوّل بالبنصر، وفيه لغيره ألحان قديمة ومحدثة - فلم تجد أداءه، فصاح بها معبد: يا جارية، إنّ غناءك هذا ليس بمستقيم. قال: فقال له مولاها وقد غضب: وأنت ما يدريك الغناء ما هو؟ ألا(٥) تمسك وتلزم شأنك! فأمسك. ثم غنّت أصواتا من غناء غيره وهو ساكت لا يتكلَّم، حتى غنّت:
  صوت
  بابنة الأزديّ قلبي كئيب ... مستهام عندها ما ينيب
  ولقد لاموا فقلت دعوني ... إنّ من تنهون عنه حبيب
  إنّما أبلى عظامي وجسمي ... حبّها والحبّ شيء عجيب
(١) قال ابن السكيت: البرهة بالفتح والضم: الزمان الطويل، وقال غيره: الزمان مطلقا.
(٢) الأبلَّة: بلدة على شاطئ دجلة البصرة العظمى في زاوية الخليج الذي يدخل إلى مدينة البصرة. ويقال فيه: الأبلة بفتح الهمزة والباء (ياقوت).
(٣) كذا في ح، ر. وب، س: «الغور فالأجراع» بالراء المهملة. وفي أكثر النسخ الخطية: «الغور والأجزاع». و «الغور»: المطمئن من الأرض، و «الأجراع»: جمع جرع وهو مفرد أو هو جرعة، وهي الرملة الطيبة المنبت لا وعوثة فيها. و «إضم» بكسر ففتح:
واد بجبل تهامة، وهو الوادي الذي فيه المدينة. وقد ورد هذا البيت في «ديوان النابغة» المطبوع بباريس هكذا:
بانت سعاد وأمسى حبلها انجذما ... واحتلت الشّرع فالأجزاع من إضما
و «شرع»: قرية على شرقيّ ذرة مزارع ونخيل على عيون، وواديها يقال له: رخيم. و «الأجزاع»: جمع جزع بالكسر - وقال أبو عبيدة: اللائق به أن يكون مفتوحا -: منعطف الوادي. وفي «التاج» مادة «أضم»
واحتلت الشرع فالخبتين من إضما
والخبت: المتسع من بطون الأرض. (انظر ياقوت و «القاموس» و «شرحه» في هذه المواد).
(٤) «بليّ» كغنيّ: اسم قبيلة. والسفاه: الطيش وخفة الحلم. والذكرة (بالكسر والضم): نقيض النسيان. وفي ت:
إلا السفاه وإلا ذكرها حلما
(٥) في ت: «لم لا تمسك الخ».