أخبار بشار بن برد ونسبه
  يتكلَّم أن يتفل عن يمينه وشماله ويصفّق بإحدى يديه على الأخرى، ففعل ذلك وأنشد:
  يعقوب قد ورد العفاة عشيّة ... متعرّضين لسيبك المنتاب(١)
  فسقيتهم وحسبتني كمّونة ... نبتت لزارعها بغير شراب
  / مهلا لديك فإنّني ريحانة ... فاشمم بأنفك واسقها بذناب(٢)
  طال الثواء على تنظَّر حاجة ... شمطت(٣) لديك فمن لها بخضاب
  تعطي الغزيرة(٤) درّها فإذا أبت ... كانت ملامتها على الحلَّاب
  وفاة بشار:
  يقول ليعقوب: أنت من المهديّ بمنزلة الحالب من الناقة الغزيرة التي إذا لم يوصل إلى درّها فليس ذلك من قبلها، إنّما هو من منع الحالب منها، وكذلك الخليفة ليس(٥) من قبله لسعة معروفة، إنما هو من قبل السبب إليه.
  قال: فلم يعطف ذلك يعقوب عليه وحرمه، فانصرف إلى البصرة مغضبا. فلمّا قدم المهديّ البصرة أعطى عطايا كثيرة ووصل الشعراء، وذلك كلَّه على يدي يعقوب، فلم يعط بشّارا شيئا من ذلك، فجاء بشّار إلى حلقة يونس النّحويّ فقال: هل هاهنا أحد يحتشم(٦)؟ قالوا له: لا؛ فأنشأ بيتا يهجو فيه المهديّ، فسعى به أهل الحلقة إلى يعقوب؛ فقال يونس(٧) للمهديّ: إنّ بشارا زنديق وقامت عليه البيّنة عندي بذلك، وقد هجا أمير المؤمنين، فأمر ابن نهيك بأخذه، وأزف خروجهم فخرجوا وأخرجه ابن نهيك معه في زورق. فلما كانوا بالبطيحة ذكره المهديّ فأرسل إلى ابن نهيك يأمره أن يضرب بشّارا ضرب التلف ويلقيه بالبطيحة، فأمر به فأقيم على صدر السفينة وأمر الجلَّادين أن يضربوه ضربا يتلفون فيه نفسه ففعلوا ذلك، فجعل يسترجع(٨)؛ فقال بعض من حضر: أما تراه / لا يحمد اللَّه! فقال بشّار: أنعمة هي فأحمد اللَّه عليها! إنّما هي بليّة أسترجع عليها، فضرب سبعين سوطا مات منها وألقي في البطيحة.
  قال يحيى بن عليّ فحكى قعنب بن محرز الباهليّ قال حدّثني محمد بن الحجّاج قال:
  لما ضرب بشار بالسّياط وطرح في السفينة قال: ليت عين أبي الشّمقمق رأتني حين يقول:
  /
  إنّ بشّار بن برد ... تيس أعمى في سفينة(٩)
(١) المنتاب: الذي يأتي مرة بعد أخرى.
(٢) ذناب: جمع ذنوب، والذنوب: الدلو الملأى.
(٣) شمطت: تأخر قضاؤها وطال عليها الأمد، وأصل الشمط أن يخالط سواد الرأس بياض الشيب.
(٤) الغزيرة: الكثيرة الدرّ.
(٥) مرجع ضمير «ليس» المنع.
(٦) يحتشم: يحذر ويهاب محضره، وقد أنكر صاحب «اللسان» مجيء «احتشم» متعديا فقال: ولا يقال: احتشمته، ثم نقل عن الليث في قول القائل: «ولم يحتشم ذلك» أنه من قبيل حذف من وإيصال الفعل إلى المجرور. وجاء في «أساس البلاغة»: «أنا أحتشمك وأحتشم منك: أي أستحي».
(٧) تقدم في (ص ٢٤٢) من هذا الجزء أن الذي أخبر المهدي هو يعقوب فلعل «يونس» هنا سبق قلم من الناسخ.
(٨) يسترجع: يقول: إنا للَّه وإنا إليه راجعون.
(٩) كان العرب إذا هجوا إنسانا بالغباوة أو بالنتن قالوا: إنما هو تيس، فإذا أرادوا الغاية في الغباوة قالوا: ما هو إلا تيس في سفينة.
(انظر الحيوان للجاحظ طبع مطبعة التقدم ج ٥ ص ١٣٦).