كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

ذكر نسب أبي العتاهية وأخباره

صفحة 333 - الجزء 4

  الضحّاك؛ فقلت: ما تقول في رجلين تشاجرا، فضّل أحدهما أبا نواس وفضّل الآخر أبا العتاهية؟ فقال الحسين: أمّ من فضّل أبا نواس على أبي العتاهية زانية؛ فخجل الفتح حتى تبيّن ذلك فيه، ثم لم يعاودني في شيء من ذكرهما حتّى افترقنا.

  اجتمع مع مخارق فما زال يغنيه وهو يشرب ويبكي ثم كسر الآنية وتزهد:

  وقد حدّثني الحسن بن محمد بهذا الخبر على خلاف ما ذكره إبراهيم بن المهديّ فيما تقدّم، فقال: حدّثني هارون بن مخارق قال حدّثني أبي قال:

  جاءني أبو العتاهية فقال: قد عزمت على أن أتزوّد منك يوما تهبه لي، فمتى تنشط؟ فقلت: متى شئت.

  فقال: أخاف أن تقطع بي. فقلت: واللَّه لا فعلت وإن طلبني الخليفة. فقال: يكون ذلك في غد. فقلت: أفعل.

  فلمّا كان من غد باكرني رسوله فجئته، فأدخلني بيتا له نظيفا فيه فرش نظيف، ثم دعا بمائدة عليها خبز سميذ⁣(⁣١) وخلّ وبقل⁣(⁣٢) وملح وجدي مشويّ فأكلنا منه، ثم دعا بسمك مشويّ فأصبنا منه حتى اكتفينا، ثم دعا بحلواء فأصبنا منها وغسلنا أيدينا، وجاؤونا بفاكهة وريحان وألوان / من الأنبذة، فقال: اختر ما يصلح لك منّها؛ فاخترت وشربت؛ وصبّ قدحا ثم قال: غنّني في قولي:

  أحمد قال لي ولم يدر ما بي ... أتحبّ الغداة عتبة حقّا

  فغنّيته، فشرب قدحا وهو يبكي أحرّ بكاء. ثم قال: غنّني في قولي:

  ليس لمن ليست له حيلة ... موجودة خير من الصّبر

  فغنّيته وهو يبكي وينشج⁣(⁣٣)، ثم شرب قدحا آخر ثم قال: غنّني، فديتك، في قولي:

  خليليّ ما لي لا تزال مضرّتي ... تكون مع الأقدار ختما من الحتم

  فغنّيته إيّاه. وما زال يقترح عليّ كلّ صوت غنّي به في شعره فأغنّيه ويشرب ويبكي حتى صار العتمة. فقال:

  أحبّ أن تصبر حتّى ترى ما أصنع فجلست. فأمر ابنه وغلامه فكسرا كلّ ما بين أيدينا من النبيذ / وآلته والملاهي، ثم أمر بإخراج كلّ ما في بيته من النّبيذ وآلته، فأخرج جميعه، فما زال يكسره ويصبّ النبيذ وهو يبكي حتى لم يبق من ذلك شيء، ثم نزع ثيابه واغتسل، ثم لبس ثيابا بيضا من صوف، ثم عانقني وبكى، ثم قال: السلام عليك يا حبيبي وفرحي من الناس كلَّهم سلام الفراق الذي لا لقاء بعده؛ وجعل يبكي، وقال: هذا آخر عهدي بك في حال تعاشر أهل الدنيا؛ فظننت أنّها بعض حماقاته، فانصرفت، وما لقيته زمانا. ثم تشوّقته⁣(⁣٤) فأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت، فإذا هو قد أخذ قوصرتين⁣(⁣٥) وثقب إحداهما وأدخل رأسه ويديه فيها وأقامها مقام القميص، وثقب الأخرى⁣(⁣٦) وأخرج رجليه منها وأقامها مقام السّراويل. فلمّا رأيته نسيت كلّ ما كان عندي من الغمّ عليه والوحشة


(١) السميذ: الدقيق الأبيض وهو لباب الدقيق.

(٢) كذا في الأصول. ويحتمل أيضا أن يكون «نقل» إذ هو المناسب للمقام.

(٣) نشج الباكي: غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب.

(٤) في «معاجم اللغة» التي بين أيدينا أن «تشوّق» يتعدّى بالحرف. فلعل ما هاهنا من باب الحذف والإيصال، والأصل: «تشوّقت إليه».

(٥) القوصرة (بتشديد الراء وتخفيفها): وعاء من قصب يرفع فيه التمر من البواري.

(٦) في الأصول: «أخرى».