كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

ذكر نسب أبي العتاهية وأخباره

صفحة 334 - الجزء 4

  لعشرته، / وضحكت واللَّه ضحكا ما ضحكت مثله قطَّ. فقال: من أيّ شيء تضحك؟ فقلت: أسخن⁣(⁣١) اللَّه عينك! هذا أيّ شيء هو؟ من بلغك عنه أنّه فعل مثل هذا من الأنبياء والزّهّاد والصحابة والمجانين، انزع عنك هذا يا سخين العين! فكأنه استحيا منّي. ثم بلغني أنّه جلس حجّاما، فجهدت أن أراه بتلك الحال فلم أره. ثم مرض، فبلغني أنه اشتهى أن أغنّيه، فأتيته عائدا، فخرج إليّ رسوله يقول: إن دخلت إليّ جدّدت لي حزنا وتاقت نفسي من سماعك إلى ما قد غلبتها عليه، وأنا أستودعك اللَّه وأعتذر إليك من ترك الالتقاء، ثم كان آخر عهدي به.

  تمنى عند موته أن يجيء مخارق فيغنيه في شعره:

  حدّثني جحظة قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

  قيل لأبي العتاهية عند الموت: ما تشتهي؟ فقال: أشتهي أن يجيء مخارق فيضع فمه على أذني ثم يغنّيني.

  سيعرض عن ذكري وتنسى مودّتي ... ويحدث بعدي للخليل خليل

  إذا ما انقضت عنّي من الدّهر مدّتي⁣(⁣٢) ... فإنّ غناء الباكيات قليل

  وأخبرني به أبو الحسن الأسديّ قال حدّثنا محمد بن صالح [بن] النطَّاح قال:

  قال بشر بن الوليد لأبي العتاهية عند الموت: ما تشتهي؟ فذكر مثل الأوّل.

  وأخبرني به ابن عمّار أبو العبّاس عن ابن أبي سعد عن محمد بن صالح: أنّ بشرا قال ذلك لأبي العتاهية عند الموت، فأجابه بهذا الجواب.

  آخر شعر قاله في مرضه الذي مات فيه:

  نسخت من كتاب هارون بن عليّ: حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني عبد اللَّه بن عطيّة قال حدّثني محمد بن أبي العتاهية قال: آخر شعر قاله أبي في مرضه الذي مات فيه:

  إلهي⁣(⁣٣) لا تعذّبني فإنّي ... مقرّ بالَّذي قد كان منّي

  فما لي حيلة إلَّا رجائي ... لعفوك إن عفوت وحسن ظنّي

  / وكم من زلة لي في الخطايا ... وأنت عليّ ذو فضل ومنّ

  إذا فكَّرت في ندمي عليها ... عضضت أناملي وقرعت سنّي

  اجنّ بزهرة الدّنيا جنونا ... وأقطع طول عمري بالتمنّي

  ولو أنّي صدقت الزّهد عنها ... قلبت لأهلها ظهر المجنّ

  يظنّ الناس بي خيرا وإنّي ... لشرّ الخلق إن لم تعف عنّي


(١) أسخن اللَّه عينه: أبكاه وأحزنه.

(٢) كذا في «وفيات الأعيان» لابن خلكان «وديوانه» طبع بيروت (ص ٢٢١). ومدته: أجله. وفي الأصول: «ليلة».

(٣) ورد هذا الشعر في «ديوانه» (ص ٢٦٣) باختلاف يسير في الرواية عما هنا.