أخبار فريدة
  وقعت عليّ(١) وقد نظرت إليها ونظرت إليّ؛ فأطرق ساعة إلى الأرض متحيّرا وأطرقت أتوقّع ضرب العنق. فإنّي لكذلك إذ قال لي: يا محمد، فوثبت. فقال: ويحك! أرأيت أغرب مما تهيّأ علينا! فقلت: يا سيّدي، الساعة واللَّه تخرج روحي، فعلى من أصابنا بالعين لعنة اللَّه! فما كان السبب؟ ألذنب؟ قال: لا واللَّه! ولكن فكرت أنّ جعفرا يقعد هذا المقعد ويقعد معها كما هي قاعدة معي، فلم أطق الصبر وخامرني ما أخرجني إلى ما رأيت. فسري عنّي وقلت:
  بل يقتل اللَّه جعفرا، ويحيا أمير المؤمنين أبدا، وقبّلت الأرض وقلت: يا سيّدي اللَّه اللَّه! ارحمها ومر بردّها. فقال لبعض الخدم الوقوف: من يجيء بها؟ فلم يكن بأسرع من أن خرجت وفي يدها عودها وعليها غير الثياب التي كانت عليها. فلما رآها جذبها وعانقها، فبكت وجعل هو يبكي، واندفعت أنا في البكاء. فقالت: ما ذنبي يا مولاي ويا سيّدي؟ وبأيّ شيء استوجبت هذا؟ فأعاد عليها ما قاله لي وهو يبكي وهي تبكي. فقالت: سألتك باللَّه يا أمير المؤمنين إلَّا ضربت عنقي الساعة وأرحتني من الفكر في هذا، وأرحت قلبك من الهمّ بي، وجعلت تبكي ويبكي، ثم مسحا أعينهما ورجعت إلى مكانها؛ وأومأ إلى خدم وقوف بشيء لا أعرفه، فمضوا وأحضروا أكياسا فيها عين(٢) وورق، ورزما فيها ثياب كثيرة، وجاء خادم بدرج ففتحه وأخرج منه عقدا ما رأيت قطَّ مثل جوهر كان فيه، فألبسها إيّاه، وأحضرت بدرة فيها عشرة آلاف درهم فجعلت بين يدي وخمسة تخوت فيها ثياب، وعدنا إلى أمرنا وإلى أحسن مما كنا؛ فلم نزل كذلك / إلى الليل، ثم تفرّقنا.
  قصتها مع المتوكَّل بعد الواثق:
  وضرب الدهر ضربه(٣) وتقلَّد المتوكل. فو اللَّه إني لفي منزلي بعد يوم نوبتي إذ هجم عليّ رسل الخليفة، فما أمهلوني حتى ركبت وصرت إلى الدّار، فأدخلت واللَّه الحجرة بعينها، وإذا المتوكَّل في الموضع الذي كان فيه الواثق على السرير بعينه وإلى جانبه فريدة. فلمّا رآني قال: ويحك! أما ترى ما أنا فيه من هذه! أنا منذ غدوة أطالبها بأن تغنّيني فتأبى ذلك! فقلت لها: يا سبحان اللَّه! أتخالفين سيّدك وسيّدنا وسيد البشر! بحياته غنّي! فعرفت واللَّه ثم اندفعت تغنّي:
  مقيم بالمجازة(٤) من قنوني(٥) ... وأهلك بالأجيفر(٦) فالثّماد(٧)
  فلا تبعد فكلّ فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي
  ثم ضربت بالعود الأرض، ثم رمت بنفسها عن السرير ومرّت تعدو وهي تصيح وا سيّداه! فقال لي: ويحك! ما هذا؟ فقلت: لا أدري واللَّه يا سيّدي. فقال: فما ترى؟ فقلت: أرى / أن أنصرف أنا وتحضر هذه ومعها غيرها؛ فإنّ الأمر يؤول إلى ما يريد أمير المؤمنين. قال: فانصرف في حفظ اللَّه! فانصرفت ولم أدر ما كانت القصة.
(١) في الأصول: «وقعت إليّ»، على أنه يجوز أن يكون التحريف في الفعل وأن أصله: «وقعت إليّ».
(٢) العين: الذهب المضروب وهو الدنانير. والورق: الدراهم المضروبة من الفضة.
(٣) يقال: ضرب الدهر ضربانه ومن ضربانه، وضرب الدهر ضربه ومن ضربه أي مرّ من مروره وذهب بعضه.
(٤) المجازة: منزل من منازل طريق مكة بين ماوية وينسوعة.
(٥) قنوني: واد من أودية السراة يصب إلى البحر في أوائل أرض اليمن من جهة مكة.
(٦) الأجيفر: موضع في أسفل السبعان من بلاد قيس. وقال الأصمعيّ: هو لبني أسد.
(٧) الثماد: موضع في ديار بني تميم قرب المرّوت.