شرح الأصول الخمسة،

أحمد بن الحسين مانكديم (المتوفى: 420 هـ)

دليل المقابلة الرؤية بالحاسة:

صفحة 172 - الجزء 1

  العلم بأنه تعالى لم يقلب الجبال ذهبا ضروري خلقه اللّه تعالى فينا أبدا، فلا يشبه ما ذكرناه.

  فإن قيل: ألستم جوزتم أن يقلب اللّه صورة زيد إلى صورة أخرى ثم قطعتم على أنه لم يفعل، فهلا جاز مثله في مسألتنا. والجواب عنه مثل الجواب عما مضى، لأن كلامنا في علمين أحدهما طريق إلى الآخر. فقلنا: من أفسد تلك الطريقة على نفسه، لا يحصل له العلم الذي يحصل من ذلك الطريق. والعلم بأن زيدا هو الذي شاهدناه من قبل، لا يستند إلى طريقة قد أفسدناها على أنفسنا، فجاز أن نقطع على أنه هو.

  فإن قيل: إن العلم بذلك يستند إلى طريق وهو الإدراك، وقد أفسدتم بتجويزكم على أنفسكم أن يقلب اللّه صورته فلا يمكنكم القطع على أنه هو، قيل له: ليس الأمر على ما ظننته لأن هذا العلم لا يستند إلى الإدراك، إذ لو كان كذلك لوجب فيمن أدرك زيدا ثم شاهده بعد ذلك أن يثبته لا محالة والمعلوم خلافه، فإن في الناس من يشاهد شخصا، مرة، ثم إذا رآه ثانيا تبينه وتعرفه، وفيهم من يشاهده مرارا ثم إذا رآه بعد ذلك لم يتبينه ولم يعرفه، ولا ذلك إلا لأن هذا العلم غير مستند إلى الإدراك، فصح ما قلناه.

  فإن قيل: ما ألزمتمونا في الإدراك لازم لكم في الشعاع، لأن من الجائز عندكم أن يقلب اللّه شعاع أحدنا عن سمت المرئي، ومع ذلك يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء، كذلك في مسألتنا، قلنا: إن من قلب اللّه تعالى شعاعه عن سمت المرئي لا تكون حاسته صحيحة، بل يكون حاله وحال الأعمى سواء، وكلامنا في الحي إذا كان صحيح الحاسة، فلا يلزمنا ما ذكرتموه.

  فإن قيل: إن العلم بأنه ليس بحضرتنا شيء علم يخلقه اللّه تعالى فينا ابتداء، لا أنه يستند إلى طريق قد أفسدناه، قلنا: ليس الأمر على ما ظننته، بل العلم بأنه ليس بحضرتنا شيء، يستند إلى أنه لو كان لرأيناه، وعلى هذا فإن الأعمى لما فقد هذه الطريق لم يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء، والمبصر لما حصل له هذا العلم أمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء، فعلمنا أن أحد العلمين يستند إلى الآخر، والأول طريق إلى الثاني، فمن أفسد على نفسه العلم الأول لا يحصل له العلم الثاني.

  فقد صح بهذا الجملة ووضح أن الإدراك ليس بمعنى، وأن أحدنا حاصل على الصفة التي لو رأى إلا لكونه عليها، والقديم تعالى حاصل على الصفة التي لو رئي إلا لكونه عليها، والموانع المعقولة مرتفعة.