فصل في الآلام
  يحسن، واعتلوا لذلك بأنه تعالى مالك، وللمالك أن يفعل في ملكه ما يشاء. ونحن نمهد قبل الشروع في المسألة أصلا يمكن تخريج كلام هؤلاء المخالفين عليه، فنقول:
  إن الآلام كغيرها من الأفعال في أنها تقبح مرة وتحسن أخرى، فإذا حسن فإنما يحسن لوجه، متى وقع على ذلك الوجه حسن من أي فاعل كان، وهكذا في القبيح، وجملة ذلك أن الألم إنما يحسن إذا كان فيه نفع أو دفع ضرر أعظم منه، واستحقاق، أو الظن لأحد الوجهين المتقدمين، فإن ظن الاستحقاق لا يقوم مقام العلم خلافا لما حكى عن شيخنا أبي هاشم، لأن من آلم غيره لظن الاستحقاق، لا يأمن أن يكون مقدما على ظلم قبيح، والإقدام على ما لا يأمن كونه قبيحا بمنزلة الإقدام عليه مع القطع، فلا يمكن إنكار ما قلناه من أن في الآلام ما يقبح وفيها ما يحسن، لأن كل عاقل يعلم بكمال عقله قبح كثير من الآلام كالظلم الصريح وغيره، وحسن كثير منها كذم المستحق للذم وما يجري مجراه.
  إذا ثبت ذلك، فالذي يوضح أن الحسن منها إنما يحسن لما ذكرناه من النفع ودفع الضرر والاستحقاق، هو أن كل عاقل يستحسن بكمال عقله تحمل السفر ومعاناة السهر طلبا للأرباح، والآداب، ولا يستحسن ذلك إلا لما يرجوه من النفع، وهكذا فإنه يستحسن شرط الأذنين والحجامة والفصد، وإنما يستحسن لما يعتقد فيه من ارتفاع الضرر، ويستحسن منه ذم من أساء إليه، ولا وجه لحسنه إلا الاستحقاق، فحصل من ذلك أن الألم متى حصل على وجه من هذه الوجوه التي ذكرناها حسن لا محالة، ومتى خرج عن هذه الوجوه لم يحسن بل يكون قبيحا. ولسنا نجعل الوجه في حسنه حصول النفع ودفع الضرر على كل حال، بل إن حصل ذلك فهو الوجه في حسنه، وإن لم يحصل فإن ظن ذلك يكون وجها في حسنه، والدليل عليه أن أحدنا يحسن منه تكلف المشاق وتحمل الأسفار طلبا للعلوم والآداب وغير ذلك مع أنها كلها مظنونة، وكذلك فقد يحسن منه القصد، وإن لم يقطع على أنه يندفع به ضرر عنه، فإذن إنما يحسن منه ذلك للظن.
  وإذا تقررت هذه الجملة، فقد بطل ما قالته الثنوية من أن الآلام كلها قبيحة لنفور الطبع عنها، وإن كنا قد أبطلنا مقالتهم هذه في موضع آخر وأوردنا عليهم المسائل التي أوردها الشيوخ عليهم، فلا طائل في تطويل الكلام.
  وبطل أيضا قول أهل التناسخ، القائلين بتنقل الأرواح في الهياكل، فقد بينا أن الألم قد يحسن للنفع ولدفع الضرر كما يحسن للاستحقاق.