فصل في الآلام
  أنفسهم من حد من يكلم، فإن غاية ما على المرء أن ينهى الكلام بخصمه إلى ما يعلمه ضرورة، فمن دفع المشاهدات، وأنكر المعلومات، وجحد الضروريات، فلا سبيل إلى مكالمته.
  ومن أقوى ما نورده على هؤلاء أن يقال: إن التكليف ابتداء، معلوم أنه لا ينفك عن المشقة، فكيف يحسن مع هذا، القول بأن الألم لا يحسن إلا مستحقا؟ وهذا كما يمكن إيراده على القائلين بالنقل، يمكن إفساد كلام البكرية أيضا به.
  ثم إنه |، سأل نفسه عن كلامنا الأول من أنه لا يحسن منه الإيلام إلا للعوض والاعتبار والاستحقاق، فقال إذا كان اللّه تعالى هو الذي خلقنا، وخلق فينا الحياة والقدرة والشهوة والسمع والبصر، فهلا جاز له أن يؤلم من دون العوض أو الاستحقاق على الحد الذي ذكرتموه؟
  وهذا السؤال يمكن أن يورد على وجهين:
  أحدهما، أن يقال: إذا كان اللّه تعالى هو المنعم المتفضل الذي خلقنا وخلق فينا الحياة والقدرة والشهوة والمشتهى، فإن له أن يسترد هذه النعم أو واحدة منها كما في الشاهد فإن للمعير أن يسترد العارية، فكذلك سبيل القديم تعالى مع هذه النعم التي هي الحياة والقدرة وغيرهما لأنهما كالعواري، وعلى هذا قالوا:
  إنما الدنيا هبات وعوار مستردة شدة بعد رخاء ورخاء بعد شدة والثاني، أن يقال: إنه تعالى إذا كان أنعم علينا بهذه الضروب من النعم فله أن يمتحننا بهذا القدر من الإيلام، وصار الحال فيه كالحال في الوالد إذا أنعم على ولده بضروب من النعم، ثم قال له مرة: ناولني الكوز، أو اسقني الماء، فكما أن ذلك يحسن منه فلا يجب أن يكون في مقابلته عوض ولا استحقاق، كذلك هاهنا.
  والجواب: أما الأول فلا يصح، لأنه ليس للمنعم سلب النعمة على الإطلاق، بل لا بد من أن يكون مشروطا بأن لا يتضمن ضرر المنعم عليه ضررا يجحف بحاله ويقع الاعتداد به، وهكذا نقول في استرداد العارية من جهة العقل، على أن الشرع أباح لنا استردادها وإن اغتم المستعير بردها، وضمن له في مقابلة ما يلحقه من النعم أعواضا موفية عليه.