شرح الأصول الخمسة،

أحمد بن الحسين مانكديم (المتوفى: 420 هـ)

تكليف من المعلوم من حاله أنه يكفر

صفحة 346 - الجزء 1

  إذ لو كان قبيحا لم يفعله اللّه تعالى، وبهذا الوجه نحل شبهة العامي من أصحابنا، ونجيبهم بهذه الطريقة، ونقول له: إن هذا القدر كافيك، ولست تحتاج إلى أن تعلم وجه الحسن في ذلك على طريقة التفصيل، فهذه طريقة الجملة.

  وطريقة التفصيل، هو أن نقول: قد ثبت حسن تكليف المؤمن، ولا وجه لحسنه إلا أنه تعالى أقدره على ما كلفه وقوى دواعيه إليه وأزاح علله فيه، وهذا كله في حق الكافر ثابت ثباته في حق المؤمن، ولا فرق بينهما إلا من حيث أن المؤمن أحسن الاختيار لنفسه واستعمل عقله فآمن، ولم يحسن الكافر الاختيار لنفسه لشقاوته فلم يؤمن، وذلك لا يخرج القديم تعالى من أن يكون متفضلا عليهما جميعا.

  وصار الحال في ذلك كالحال في من أدلى حبله إلى غريقين ليتشبثا به، فتشبث أحدهما به وتخلص، ولم يتشبث به الآخر فعطب، وكالحال في من قدم الطعام إلى جائعين قد استولى عليهما الجوع وأشرفا على الهلاك لمكانه، ثم تناول أحدهما من الطعام فلم يمت، ولم يتناول الآخر فمات وهلك. فكما أن المقدم للطعام والمدلي للحبل يكون منعما عليهما على سواء، ولا يقال إنه إنما يكون منعا على الذي قبل دون من لم يقبل، كذلك هاهنا.

  فإن قيل: المؤمن اختار الإيمان، وهذا غير ثابت في الكافر قلنا: إن اختيار المؤمن الإيمان متأخر عن التكليف فكيف يصير وجها في حسنه، مع أن المعلوم أن وجه الحسن لا بد من أن يقارن.

  وعلى أن ذلك لو مدح في حسن التكليف لوجب مثله في الشاهد، حتى لا يحسن من أحدنا أن يقدم الطعام إلى من لا يقبل، ومعلوم خلافه.

  فإن قيل: ما أنكرتم أنه إنما قبح تكليف الكافر لأنه تعالى عالم من حاله أنه يكفر؟ وجوابنا على ذلك لو قبح من اللّه تعالى تكليف الكافر للعلم بأنه يكفر، لوجب أن يقبح من الواحد منا تقديم الطعام إلى الغير للعلم بأنه لا يتناول ولا ينتفع به، وكذلك يجب أن يقبح إدلاء الحبل إلى الغريق للعلم بأنه لا يتشبث به.

  فإن قال: وكذا أقول، قلنا: لو قبح مع العلم لقبح مع غلبة الظن، لأن العلم والظن سيان فيما طريقه المنافع والمضار، ألا ترى أن أحدنا لو غلب على ظنه أنه يربح في سفره فإنه يحسن منه ذلك السفر كما يحسن مع العلم.

  وبالعكس من هذا، لو غلب على ظنه أنه يخسر، فإنه لا يحسن منه أن يسافر كما