الخلاف بين الشيخين في الموازنة:
  البتة، وعلى هذا المعنى قال تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} وصار حاله كحال من خاط لغيره ثوبا ثم فتقه قبل أن يسلمه إلى صاحبه، فإنه لا يستحق على الخياطة الأجرة لما قد أفسدها على نفسه بالفتق، كذلك هاهنا. وربما استدل على ذلك بقوله تعالى: {وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} الآية. ويقول: لولا أن الأمر في ذلك على ما ذكرته وإلا كان لا يصح ما ذكره اللّه تعالى في أعمال الكفار والمرتكبين للكبائر، وربما يقول: إن الثواب إذا سقط فإنما يسقط إما بالندم على ما أتى به من الطاعة، أو بعقاب أعظم منه، ثم سقط بالندم الكل، فكذلك إذا سقط بالعقاب الذي هو أعظم منه وجب أن يسقط الكل، فلا فرق بينهما في قضية العقل.
  والأصل في الجواب عن ذلك.
  أما ما ذكره أولا، وهو أن الفاسق لإقدامه على المعاصي وارتكابه الكبائر أخرج نفسه من أن يستحق الثواب فلا يصح، لأن الفاسق أتى بالطاعة على الوجه الذي كلف وأمر به، وعلى حد لو تفرد عن الكبيرة لكان يستحق عليها الثواب، وارتكابه الكبيرة بعد ذلك لا يخرجه من أن يكون مستحقا للثواب، ففسد ما ظنه.
  وأما ما أورده في مثال ذلك فلا يصح أيضا، لأن الخياط لم يستحق الأجرة من حيث أنه إنما يستحق الأجرة على تسليم العمل، ولم يسلمه، بل فتقه قبل التسليم، حتى لو قدرنا أن فتق بعد التسليم لكان يسلك في ذلك طريقة الموازنة على ما نقوله، وقوله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ} فإنا لا ننكره فهو كلام اللّه تعالى ووحيه وتنزيله، إلا أنه لا يقتضي إلا الإحباط على الحد الذي نقوله دون ما ذهب إليه، فذلك محض الظلم واللّه تعالى منزه عنه، وأما قوله تعالى: {وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا} الآية. فإنه لا تعلق له بظاهره لأن الهباء إنما يستعمل في أجسام رقيقة، وأفعال العباد أعراض، فكيف تجعل أجساما، وهل ذلك إلا قلب الأجناس؟ ومتى عدل عن الظاهر واشتغل بالتأويل لم يكن هو به أحق منا فنتأوله على وجه يوافق دلالة العقل والشرع، فنقول: إن المراد أن الفاسق لا يستحق بأعماله الثواب على الحد الذي كان يستحقه لو لم يدنسه بالمعصية الكبيرة، فلا ينفع به كما لا ينفع بالهباء المنثور.
  وأما ما ذكره من أن الثواب إنما يسقط بالندم أو بعقاب أعظم منه، ثم إذا سقط بالندم سقط كله، وكذلك إذا سقط بالعقاب وجب أن يسقط كله، فجمع بين أمرين من غير علة جامعة فلا يصح، ثم يقال: إن الندم إنما أثر في سقوط الثواب بأجمعه، لأنه بذل المجهود في تلافي ما وقع منه حتى يصير في الحكم كأنه لم يفعل ما قد فعل،