شرح الأصول الخمسة،

أحمد بن الحسين مانكديم (المتوفى: 420 هـ)

مناقشة حول الاستثناء والعموم والخصوص:

صفحة 444 - الجزء 1

  فمن جملة ما يمكن الاستدلال به على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها}⁣[النساء: ١٤] فاللّه تعالى أخبر أن العصاة يعذبون بالنار ويخلدون فيها، والعاصي اسم يتناول الفاسق والكافر جميعا فيجب حمله عليهما، لأنه تعالى لو أراد أحدهما دون الآخر لبينه، فلما لم يبينه دل على ما ذكرناه.

  فإن قيل: إنما أراد اللّه تعالى بالآية الكافر دون الفاسق، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} وذلك لا يتصور إلا في الكفرة، وإلا فالفاسق لا يتعدى حدود اللّه تعالى أجمع.

  قيل له: الخطاب شامل لهما جميعا على ما ذكرناه، فمن حصر فعليه الدليل.

  ثم نقول: هذا الذي ذكرتموه باطل لأنه تعالى قال: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} إلى قوله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ومن طلق امرأته لغير العدة وأخرجها من بيتها لا يكون متعديا جميع الحدود، وعلى أن الآية بالاتفاق في وعيد الفساق من أهل الصلاة، فقد وردت في قصة المواريث، ولئن اشتبه الحال في هل يجب قصر الخطاب على سببه أم لا يجب ذلك، فلا شبهة في أن حمله على سببه واجب لا محالة، وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ} فذلك اسم جمع مضاف، وقد ذهب أبو هاشم إلى أنه يحمل على الثلاثة، فعلى هذا لا كلام في أن الفاسق كالكافر في أنه ربما يتعدى ثلاثة بل أربعة من حدود اللّه تعالى.

  وأما أبو علي، فإنه وإن كان يحمل ما هذا سبيله على العموم والاستغراق إلا أن في هذا الموضع يقول: لو حملته على الاستغراق لخرج الكلام عن الفائدة البتة، لأنه لا يوجد في الكفار من تعدى على حدود اللّه أجمع، فلا يمكن حمله والحال هذه لا على الكفار ولا على الفساق فحملته على الثلاثة للعرف الحاصل فيه، فالمتعارف من حال الأمة أنهم يجرون هذا الاسم على الفاسق فيقولون: قد تعدى من حدود اللّه تعالى وجاز الرسم، فيسقط هذا السؤال أصلا، وعلى أن قوله تعالى في سورة الجن: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً}⁣[الجن: ٢٣] ليس فيه ذكر التعدي لحدود اللّه، فهلا دل على ما قلناه؟

  فإن قيل: الآية لا تدل على ذلك، لأنه ورد في شأن الكفار، ولهذا قال بعده:

  {حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً ٢٤}⁣[مريم: ٧٥] ولا هذا يكون إلا مع الكفار.