شرح الأصول الخمسة،

أحمد بن الحسين مانكديم (المتوفى: 420 هـ)

أدلة المرجئة:

صفحة 459 - الجزء 1

  وبعد، فلو كان التفضل مضمرا في الجملتين جميعا على ما ظنوه، لوجب إذا أظهر في الجملة الثانية ما يخالفه، فيقول: ويغفر ما دون ذلك لمجتنبي الكبائر أن يتناقض كلامه كما في قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ}⁣[الإسراء: ٢٣] فإنه لما اقتضى بظاهره نفي التأفيف وبفحواه نفي الشتم والضرب، لم يجز أن ينضم إلى ما يخالف فحواه فيقول: فلا تقل لهما أف واضربهما، لأنه يعد كلامه في المناقضة، كذلك كان يجب مثله هاهنا، ولهذا الوجه منعنا من القول بدليل الخطاب، وقلنا: إن قوله #: «في سائمة الغنم الزكاة» لو دل على ما لا زكاة فيه، لكان يجب إذا قال: في سائمة الغنم زكاة وفي المعلوفة أيضا زكاة أن يتناقص كلامه لأن المناقضة هي أن يثبت بآخر الكلام ما نفى بأوله أو ينفي بآخره ما أثبته بأوله، وعلى زعمهم هذا، لو قال: في سائمة الغنم زكاة، كان قد أثبت الزكاة في السوائم بالظاهر، ونفاه عن المعلوفات بدليل الخطاب، ومتى قال بعده: في المعلوفة أيضا زكاة، كان قد أثبت بآخر الكلام ما نفاه بأوله، وهذا صريح المناقضة على ما ذكرناه. كذلك في هذه المسألة التي نحن بصددها.

  وبعد، فلو كان الأمر على ما ذكرتموه، لكان يجب أن لا يغفر اللّه تعالى ما دون الشرك بالتوبة، لأنه وعد أن يغفره تفضلا، والمعلوم خلافه، فهذا هو الكلام على الوجه الأول.

  وأما ما ذكروه ثانيا، من أن الواجب لا يعلق بالمشيئة، فلا يصح، لأنه كما يراد التفضل ويعلق بالمشيئة، فقد يراد الواجب ويعلق بالمشيئة، وعلى هذا قوله تعالى:

  {وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فعلق قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} بالمشيئة، مع أنه إما أن يراد به قبول التوبة أو اللطف للتوبة، وأي ذلك كان فهو واجب عليه، فصح أن تعليق الشيء بالمشيئة لا يقدح في وجوبه، والغرض بهذا الجنس من الكلام الإبهام على السامع، وذلك مما لا مانع يمنع منه إذا تعلق به الصلاح، ونظيره قوله تعالى:

  {وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ١٤٧}⁣[الصافات: ١٤٧] أبهم على السامع لما كان الصلاح تعلق بأنهم لا يعلموا كم كانوا.

  وأما ما قالوه ثالثا، من أنه أضاف الغفران إلى نفسه، فالذي له ولأجله جاز تلك الإضافة، هو أنه تعالى لما كان هو المعاقب، وكان هو الذي لا يختار أن يعاقب المكلف العقوبة التي كان يستحقها من قبل، لم يمتنع أن يضيفه إلى نفسه سواء كان واجبا أو من باب التفضل، وعلى هذا صح قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ