مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح،

أحمد بن محمد بن يعقوب (المتوفى: 1128 هـ)

فصاحة الكلام

صفحة 122 - الجزء 1

  وكذا ما يقال من أن ذكر تقديم المستثنى فى موجبات التعقيد لا يصح، لجريانه على القانون النحوى؛ لأن ذلك مبنى على أن ضعف التأليف يلزم من نفيه نفى التعقيد اللفظى، وقد تقدم عدم الاستلزام بأن تقديم المستثنى مما يزيد التعقيد فيصح ذكره فى موجباته (وإما فى الانتقال) أى: يحصل التعقيد بصعوبة فهم المراد لخلل واقع فى تأليف اللفظ أو لخلل واقع فى الانتقال أى: فى انتقال الذهن من معنى اللفظ الأصلى إلى معنى آخر ملابس للأصلى، قد استعمل اللفظ ليفهم منه ذلك الملابس على وجه الكناية أو المجاز، فإن شرط فصاحة الكناية والمجاز أن يكون الفهم سريعا لكون المعنى الثانى المراد كناية أو مجازا قريبا فهمه من الأصل فى تركيب الاستعمال العرفى، وأما إن لم يكن كذلك بأن كان فهم الملابس بعيدا عن الفهم عرفا، بحيث يفتقر فى فهمه إلى وسائط التفكرات الكثيرة، فالحاجة إلى كثرة الترددات فى الفكر هى الموجبة لعدم سرعة الفهم، فالمراد بكثرة الوسائط كثرة التفكرات المحتاجة فى الفهم، ويحتمل أن يكون مراد من قال: إن سبب الصعوبة الوسائط الكثيرة الوسائط الحسية وخصها بالذكر؛ لأن غالب الصعوبة معها وفيه ضعف لأن مناط الصعوبة ما تقدم كما سنبينه الآن، ويلزم من بعد الفهم خفاء القرائن، وقد علم من قولنا بعيدا عن الفهم عرفا أن المناط فى الصعوبة عدم الجريان على ما يتعاطاه أهل الذوق السليم، لا كثرة الوسائط الحسية، فإنها قد تكثر من غير صعوبة، كما يأتى فى قولهم: فلان كثير الرماد كناية عن المضياف فإن الوسائط كثيرة فيه ولكن لا تعقيد، ولما كانت الصعوبة مظنة اضطراب الفكر، والفكر هى المؤدية إلى الفهم صح جعلها وسائط ووصفها بالكثرة، ثم مثل للخلل الموجود فى الانتقال بقوله: (كقول الآخر) ولم يقل كقوله؛ لئلا يتوهم أنه الفرزدق:

  (سأطلب بعدا لدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناى الدموع لتجمدا)⁣(⁣١)

  فقد عبر بسكب الدموع لينتقل من معناه إلى لازمه الذى هو وجود الحزن الذى يحصل كثيرا عن فراق الأحبة، وهذا أمر سريع الإدراك عرفا، ولهذا يقال: أبكاه


(١) البيت للعباس بن أحنف، في ديوانه ص ١٠٦، ط دار الكتب، والإيضاح ص ١٦، ودلائل الإعجاز ص ٢٦٨.