تأكيد المدح بما يشبه الذم
  والمدح الأول المزيد عليه نفي العيب على العموم حيث قال: لا عيب فيهم، والمدح الثاني المزيد إشعار استثناء المدح بعد العموم بأنه لم يجد صفة ذم يستثنيها؛ لأن أصل الإتيان بالأداة بعد عموم النفي استثناء الإثبات من جنس المنفي، وهو الذم، فلما أتى بالمدح بعد الأداة فهم منه أنه طلب الأصل؛ لأنه هو الذي ينبغي أن يرتكب فلما لم يجده أي لم يجد الأصل الذي هو استثناء الذم اضطر إلى استثناء المدح، فتحول الاستثناء عن أصله إلى الانقطاع ولا يخفى أن هذا أبلغ وأنه توجيه يستملح، ويثلج به الصدر في إفادة التأكيد حقيقة، والأول إنما أفاد التأكيد بأمر تخييلي كما تقدم، وهو الفرق بينهما وقوله ذكر الأداة يوهم إخراج شيء دخل، لا يخلو من تمحل وإيهام: أما التمحل فلأن الإيهام المذكور إنما يتحقق في الخارج إن فرض أن الأداة ذكرت ثم ذكر المستثنى بعد مهلة، وأما إن ذكر بإثرها فلم يتحقق إيهام إخراج شيء دخل؛ لأنه بنفس سماع الأداة سمعت صفة مدح بعدها، والإيهام حيث تعلق بإخراج شيء دخل يحتاج إلى مهلة في حصوله؛ لطوله.
  وأما الإيهام، فلأن هذا الكلام يتبادر منه أن التأكيد يتوقف على حصول إيهام استثناء ما هو عيب، وأن ذلك التأكيد لا يحصل حتى يذهب الوهم إلى الاتصال، ثم يعود إلى الانقطاع، وليس كذلك، بل إنما يتوقف على كون الأصل في الاستثناء الاتصال، فالفائدة إنما هي في بيان أن المتكلم لما كان الأصل في الاستثناء ما ذكر فهم بعد الفراغ من الكلام أنه كان طلب الأصل وهو الاتصال، إذ هو الذي ينبغي أن يرتكب ويحمل عليه طلب الطالب فلم يجده فلذلك تحول إلى الانقطاع باستثناء المدح فيفهم التأكيد والمدح الذى يطلب معه عيب، ولا يوجد أصلا أوكد فتأمل.
  فإن قلت: من أين يفهم أن التعليق كان في الاستثناء المذكور، فإن مدلول قولنا مثلا: لا عيب فيه إلا الكرم استثناء الكرم فيطلب له وجه يصح اتصالا وانقطاعا، وأما أن المعنى لا عيب إلا الكرم إن كان عيبا فلا دليل عليه؟ قلت: يفهم من موارد الكلام، فإن معناه هو ما ذكر عند البلغاء، حتى إنه ربما صرح به فيقال مثلا: فلان لم نجد له