التخلص
  الذي حصل فيه ذلك التأنق هو التخلص مما شبب به الكلام إلى المقصود مع رعاية المناسبة إلخ، وبهذا يعلم أن الكلام لا يصح بمجرد جعل التخليص يراد به معناه اللغوي مع تعلق ما بعده به، وذلك ظاهر، ووجه كون تلك المناسبة من التأنق الذي ينبغي أن يراعى في التخلص أن السامع إذا كان أهلا للاستماع؛ لكونه من العارفين بمحاسن الكلام يترقب الانتقال من الافتتاح إلى المقصود، كيف يكون؛ لأن من المعلوم أن من قصد شيئا وابتدأ بغيره فقد جعل ذلك الغير كالوسيلة إلى المقصود، فلا بد أن تكون بينها مناسبة ومواصلة، والاتصال إنما يظهر عند انتهاء الوسيلة وإرادة الانتقال، فإذا جاء حسنا للملاءمة بين طرف المفتتح به، وطرف المقصود، حرك من نشاط السامع لوجود تلك الملاءمة المطلوبة، وأعانه ذلك الحسن على الإصغاء لما بعده؛ لاعتقاد كون صاحبه برع وصار أهلا لإيجاد الحسن، وإلا توجد تلك المناسبة فات الحسن المنتظر، فيعدوهم السامع الشاعر ليس أهلا أن يستمع، فلا يصغي إليه، ولو أتي بما هو حسن بعده فالتخلص، الحسن لوجود الارتباط والمناسبة (كقوله: يقول في قومس)(١) وهو اسم موضع (قومي وقد أخذت. منا السرى) أي: والحال أن السرى قد أخذت منا أي: أثرت فينا ونقصت من قوانا، والسرى هو المشي ليلا، فهو مصدر يؤنثه بعض العرب بتوهم أنه جمع؛ إذ هو على وزن من أوزان الجموع (وخطا المهرية) عطف على السرى أي: أخذت منا السرى، وأخذت منا خطا المهرية أي: نقصت منا المهرية بخطاها، ومشيها وتحريكها إيانا، وتكلف مسايرتنا معها؛ لأن ذلك مما يتعب وينقص من قوتنا، فهو كعطف أخص على أعم، وليس معطوفا على المجرور في قوله: منا؛ لأنه يكون التقدير: نقصت منا السرى ونقصت السرى أيضا من خطا المهرية، ولا معنى لنقص السرى من خطا المهرية من حيث إنها خطا، وحمله على أن السرى طال فنقص قوى المهرية كما نقص قوانا، وكنى عن ذلك بنقص خطاها، تكلف لا حاجة إليه؛ لوجود غيره، فإن قلت: فيه المبالغة في نقص قواهم حيث أفضى بطوله إلى نقص قوى ما هو أقوى منهم وهو المهرية، قلت: لا يتعلق غرض بهذه المبالغة في المقام؛ لأن المقصود
(١) البيت لأبى تمام فى ديوانه ص (١٢٨)، وشرح عقود الجمان (٢/ ١٩٥).