دقيقة في الوجه المركب
  معه كان كلاهما واسطة. أما التمليح فيما ذكر فلأن إفادة نهاية الذم المقصودة فى طى ما يفيد نهاية المدح مما يستملح، وأما التهكم فلأن الإتيان بعكس ما يطلب فى طيه معروف لتلك الإهانة كمناولة حجر عند طلب خبز مثلا، ولهذا يقال عند مناولته استهزاء: خذ الخبز، ولأجل قصد نهاية الإهانة ناسب التعبير فى هذا التشبيه بصيغة التعجب والمبالغة كما فى المثالين، وإنما زدنا ذكر الوجه نحن لقصد إيضاح المراد من الوجه، ثم لا يخفى أن انتزاع الوجه من التضاد مؤخر عن تنزيله منزلة التناسب على ما قررنا، فالتعبير بثم فى التنزيل للترتب الذكرى، إلا أن يراد بالانتزاع قصده، ويراعى فى التنزيل نهايته فيوجد حينئذ الترتب والمهلة، فتكون ثم على بابها تأمل.
  فتبين بما قررنا أن التمليح مصدر ملح الشاعر إذا أتى بشيء مليح وقصد التمليح، أى: الإتيان بشيء مليح فى طى التعبير بما يدل فى الأصل على خلاف المراد موجود فى كلام العرب كما بينه الإمام المرزوقى فى قول الشاعر الحماسى، أى: المنسوب إلى الحماسة وهى الشجاعة كما دل عليه شعره:
  أتانى من أبى أنس وعيد ... فسل لغيظة الضحاك جسمى(١)
  فإنه قال هذا البيت قصد قائله التهكم بأبى أنس والتمليح، أى: الإتيان بشيء مليح يستظرفه السامعون، والإمام المرزوقى قدوة فيما يفهم من أشعار العرب لتدربه بها وممارسته لمقتضياتها، ومعنى سل ذاب وهو بصيغة المبنى للمجهول، والجسم هو النائب، وفى بعض الروايات بدل لغيظة تغيظ فيكون بصيغة المبنى للفاعل، والتغيظ فاعله، والجسم مفعول، والمراد بالضحاك أبو أنس نفسه، وعبر بالظاهر موضع الإضمار بيانا لعين المستهزأ به بذكر الاسم العلم تحقيرا لشأنه، وقيل: الضحاك اسم لملك من الملوك سماه به زيادة فى التهكم لتضمنه تشبيهه به على وجه الهزؤ والسخرية، فكأنه قال: فسل جسمى تغيظ هذا الذى هو كالملك الفلانى، ولا يخفى ما فيه من الاستهزاء فالتمليح بتقديم الميم معناه ما ذكر من الإتيان بالمليح، وليس مرادفا للتلميح بتقديم اللام الذى هو الإشارة إلى قصة كما فى قوله:
(١) البيت لشاعر حماسى فى شرح عقود الجمان (٢/ ١٨).