الباب الثاني في الحقيقة والمجاز وفيه عشرون مبحثا وتتمة
  فقد جعل الزيادة والوفور حياة للمال وتفريقه في العطاء قتلا له، ثم أثبت الإحياء فعلا للصوارم والقتل فعلا للتبسم، مع أن كلا منهما لا يصح منه الفعل.
  وقد وقع هذا المجاز في التنزيل نحو: {وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً}(١)، فقد نسبت الزيادة الى الآيات لكونها سببا، ونحو: {يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ} نسب الذبح الى فرعون لأنه الآمر به والسبب فيه، ونحو: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً}(٢)، فقد أسند الفعل الى الظرف لوقوعه فيه.
  (قرينته) قرينة هذا المجاز إما لفظية، كقول أبي النجم العجلي:
  ميز عنه قنزعا عن قنزع ... جذب الليالي أبطئ أو أسرعي(٣)
  فقد استدللنا على أن إسناد ميز الى جذب الليالي مجاز بقوله بعده:
  أفناه قيل الله للشمس اطلعي ... حتى اذا واراك أفق فارجعي
  فإنه يدل على أن ذلك فعل الله، وأنه هو المفتى، فيكون إسناده الى جذب الليالي من الاسناد الى الزمان.
  وإما غير لفظية، كاستحالة صدور المسند من المسند اليه، أو قيامه به عقلا، نحو: محبتك جاءت بي اليك، أو عادة نحو: بنى الوزير القصر، وكصدور الكلام من الموحد، كما في إسناد الاشادة والافناء الى كر الغداة في قوله الصلتان للعبدي:
  أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشي
  اذا ليلة هرمت يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتى
  (تنبيهات) الأول قال عبد القاهر: هذا الضرب من المجاز، على حدته، كنز من كنوز البلاغة ومادة الشاعر المفلق والكاتب البليغ في الإبداع والإحسان والاتساع في طرق البيان، ولا يغرنك من أمره أنك ترى الرجل يقول: أتى بي الشوق الى لقائك، وسار بي الحنين الى رؤيتك، وأقدمني بلدك حق لي على إنسان،
(١) سورة الأنفال الاية ٢.
(٢) سورة المزمل الاية ١٧.
(٣) ميز: فصل، وعنه أي عن رأسه، والقنزح: الشعر المجتمع في نواحي الرأس، وجذب الليالي: مضيها وتعاقبها، وابطئ أو أسرعي حال من الليالي على تقدير القول.