البلاغة الواضحة،

علي الجارم (المتوفى: 1368 هـ)

مقدمة

صفحة 10 - الجزء 1

  ومن أمثلة ذلك قول المتنبي لكافور الإخشيدى⁣(⁣١) في أول قصيدة مدحه بها:

  كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا⁣(⁣٢)

  وقوله في مدحه:

  وما طربى لمّا رأيتك بدعة ... لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب

  قال الواحدىّ⁣(⁣٣): هذا البيت يشبه الاستهزاء فإنه يقول: طربت عند رؤيتك كما يطرب الإنسان لرؤية المضحكات. قال ابن جنّى⁣(⁣٤): لما قرأت على أبى الطيب هذا البيت قلت له: ما زدت على أن جعلت الرجل قردا، فضحك. ونرى أن المتنبي كان يغلى صدره حقدا على كافور وعلى الأيام التي ألجأته إلى مدحه؛ فكانت تفر من لسانه كلمات لا يستطيع احتباسها وقديما زلّ الشعراء لمعنى أو كلمة نفّرت سامعيهم، فأخرجت كلامهم عن حد البلاغة، فقد حكوا أن أبا النجم⁣(⁣٥) دخل على هشام ابن عبد الملك وأنشده:

  صفراء قد كادت ولمّا تفعل ... كأنّها في الأفق عين الأحول⁣(⁣٦)


(١) كافور الإخشيدى: هو الأمير المشهور صاحب المتنبي، وكان عبدا اشتراه الإخشيد ملك مصر سنة ٣١٢ هـ فنسب إليه وأعتقه، فترقى عنده، وما زالت همته تسمو به حتى ملك مصر سنة ٣٥٥ هـ، وكان مع شجاعته فطنا ذكيا حسن السياسة، وتوفى بالقاهرة سنة ٣٥٧ هـ.

(٢) كفى بك: أي كفاك فالباء زائدة، والمنايا جمع منية وهي الموت، والأماني:

جمع أمنية وهي الشئ الذي تتمناه؛ يخاطب أبو الطيب نفسه ويقول: كفاك داء رؤيتك الموت شافيا لك، وكفى المنية أن تكون شيئا تتمناه.

(٣) الواحدي: مفسر عالم بالأدب، مولده ووفاته بنيسابور، وكتبه البسيط والوسط والوجيز في التفسير مخطوطة، وشرحه لديوان المتنبي مطبوع توفى سنة ٤٦٨ هـ.

(٤) ابن جنى: هو من أئمة النحو والعربية ولد في الموصل وتوفى ببغداد سنة ٣٩٢ هـ. ومن مؤلفاته الخصائص في اللغة، وكان المتنى يقول: ابن جنى أعرف بشعرى منى.

(٥) أبو النجم: هو الفضل بن قدامة، وهو من رجال الإسلام، والفحول المتقدمين في الطبقة الأولى منهم، وله مع هشام بن عبد الملك أخبار طويلة، وكانت وفاته آخر دولة بنى أمية.

(٦) قيل هما البيت في وصف الشمس، والأحول: من بعينه حول. وهو ظهور البياض في مؤخر العين، ويكون السواد من قبل الماق.