كتاب شرح اللمع في النحو،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب عطف النسق

صفحة 264 - الجزء 1

  بعد خلق [١٠٥ / ب] السماء، دحا الأرض، وكانت مخلوقة قبل. ولم يقل: بعد ذلك خلقها، إنما قال: دحاها.

  ومعنى (أو) الشك. تقول: قام زيد، أو عمرو. ويكون تخييرا، تقول: اضرب زيدا، أو عمرا، أي: أحدهما، أو إباحة، تقول: جالس الحسن، أو ابن سيرين، أي: أبحتك مجالسة هذا الضرب من الناس. وأين وقعت (أو) فهي لأحد الشيئين.

  [قلت]: قسم (أو) ثلاثة أقسام. وله قسم رابع. وهو أن يكون للإبهام، على المخاطب، كقوله تعالى: {وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (١٤٧)⁣(⁣١)، أي: قد بلغت عدتهم، إلى أن يقول حازرهم، حين يحزرهم: مائة ألف أو يزيدون. وقول من قال: إنّ (أو) تأتي بمعنى الواو، فليس بشيء، وإنما هذا، كما ذكرت لك. نعم، لما كان يسمع السامع (أو) التي للإباحة، فيجوز معها الإتيان بفعل ذلك الضرب، استعمل (أو) في غير الإباحة، بمنزلة التي للإباحة. فمن ذلك قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما}⁣(⁣٢)، ولم يقل: فالله أولى به، على ما يقتضيه أصل (أو) من أنه لأحدهما، كما جاءت في الأخرى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً}⁣(⁣٣) ألا ترى أن التقدير: ومن يكسب أحد هذين ثم يرم به بريئا. ولم يقل: فالله أولى به لأنه قد جاءت: جالس الحسن أو ابن سيرين، فيجوز له مجالستهما جميعا، [وهذا]⁣(⁣٤) مجازه. [قال الشاعر]:

  ٢٧٠ - وكان سيان ألا يسرحوا نعما ... أو يسرحوه بها، واغبرت السوح⁣(⁣٥)

  وحق الكلام: سيان زيد وعمرو. ولا يقال: سيان زيد أو عمرو، لكنه، كما ذكرنا ف (أو) بمعنى الواو، ليس بالسهل. والفرق بين التخيير، والإباحة: أنه في التخيير، لا يجوز الأتيان بالمأمور كله، بخلاف الإباحة، إذا قال: اضرب زيدا أو عمرا، وخيره، فيضربهما، يكون عاصيا.

  [فإن قلت]: فقد قال الله تعالى {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}⁣(⁣٦)، ولا يجوز له أن يطيع أحدهما، بل المحرّم عليه طاعتهما جميعا. ف (أو) بمعنى الواو؟!.

  [قلت]: ليس الأمر كذلك، إنما قوله: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}، على تقدير: لا تطع أحد هذين، فإن (أو) لأحد الشيئين، أو الأشياء. ولو صرح بهذا الكلام، وقال: ولا تطع أحد هذين [١٠٦ / أ]، حرم عليه طاعتهما، لأنه في النهي ضد ما في الأمر، وفي الأمر له طاعة أحدهما.


(١) ٣٧: سورة الصافات ١٤٧.

(٢) ٤: سورة النساء ١٣٥.

(٣) ٤: سورة النساء ١١٢.

(٤) الأصل غير واضح

(٥) البيت من البسيط، لأبى ذؤيب الهذلي، في: ديوان الهزليين ١: ١٠٧، وفيه: وقال ما تغيهم: سيان سيركم وإن تقيموا به، واغبرت السوح وابن يعيش ٢: ٨٦، ٨: ٩١، والخزانة ٤: ٨٩، ٥: ١٣٤، ١٣٧، ١٣٨، ١١: ٧٠. وبلا نسبة في: الخصائص ١: ٣٤٨.

(٦) ٧٦: سورة الإنسان ٢٤.