المواعظ الشافية شرح الأنوار الهادية،

الحسن بن يحيى القاسمي (المتوفى: 1343 هـ)

قوله تعالى: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل

صفحة 169 - الجزء 1

  وَعَزِيزُهَا مَغْلُوبٌ، وَمَوْفُورُهَا مَنْكُوبٌ، وَجَارُهَا مَحْرُوبٌ.

  أَلَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً، وَأَبْقَى آثَاراً، وَأَبْعَدَ آمَالاً، وَأَعَدَّ عَدِيداً، وَأَكْثَفَ جُنُوداً! تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّدٍ، وَآثَرُوهَا أَيَّ إِيثَارٍ، ثُمَّ ظَعَنُوا عَنْهَا بَغَيْرِ زَادٍ مُبَلِّغٍ وَلَا ظَهْرٍ قَاطِعٍ.

  فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ الدُّنْيَا سَخَتْ لَهُمْ نَفْساً بِفِدْيَةٍ؟ أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَةٍ؟ أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً؟ بَلْ أَرْهَقَتْهُمْ بَالْفَوَادِحِ، وَأوْهَنَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ، وَضَعْضَعَتْهُمْ بِالنَّوَائِبِ، وَعَفَّرَتْهُمْ لِلْمَنَاخِرِ، وَوَطِئَتْهُمْ بِالْمَنَاسِمِ، وَأَعَانَتْ عَلَيْهِمْ رَيْبَ الْمَنُونِ، فَقَدْ رَأَيْتُمْ تَنَكُّرَهَا لِمَنْ دَانَ لَهَا، وَآثَرَهَا وَأَخْلَدَ إِلَيْهَا، حِينَ ظَعَنُوا عَنْهَا لِفِرَاقِ الْأَبَدِ.

  هَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلَّا السَّغَبَ؟ أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلَّا الضَّنْكَ؟ أَوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلَّا الظُّلْمَةَ؟ أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلَّا النَّدَامَةَ؟

  أَفَهَذِهِ تُؤْثِرُونَ؟ أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ؟ أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ؟ فَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَلٍ مِنْهَا!

  فَاعْلَمُوا - وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وَظَاعِنُونَ عَنْهَا، وَاتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً، حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ فَلَا يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً، وَأُنْزِلُوهَا فَلَا يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً، وَجُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِيحِ أَجْنَانٌ، وَمِنَ التُّرَابِ أَكْفَانٌ، وَمِنَ الرُّفَاتِ جِيرَانٌ، فَهُمْ جِيرَةٌ لَا يُجِيبُونَ دَاعِياً، وَلَا يَمْنَعُونَ ضَيْماً، وَلَا يَنَالُونَ مَنْدَبَةً، إِنْ جِيدُوا⁣(⁣١) لَمْ يَفْرَحُوا، وَإِنْ قُحِطُوا لَمْ يَقْنَطُوا، جَمِيعٌ وَهُمْ آحَادٌ، وَجِيرَةٌ وَهُمْ أَبْعَادٌ، مُتَدَانُونَ لَا يَتَزَاوَرُونَ، وَقَرِيبُونَ لَا يَتَقَارَبُونَ، حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ، وَجُهَلَاءُ قَدْ مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ، لَا يُخْشَى فَجْعُهُمْ، وَلَا يُرْجَى دَفْعُهُمْ، اسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الْأَرْضِ بَطْناً،


(١) أي مطروا، تمت، هامش الأصل.