(فصل): [في حدوث العالم]
  وكذلك الليل لو امتد مقدار هذه المدة كان يعوق أصناف الحيوان عن الحركة والتصرف في طلب المعاش حتى تموت جوعاً وتخمد الحرارة الغريزية مما هي فيه فتفسد كالذي تراه يحدث عن النبات إذا كان في موضع لا تقع عليه الشمس.
  فكر في إنارة القمر والكواكب في الليل وتأمل الإرب فيها فإنه مع الحاجة إلى الظلمة لهدوء الحيوان وبرد الهواء على النبات لم يكن صلاح في أن تكون الليلة كلها ظلمة داجية بغير ضياء فلا يمكن معها عمل شيء لأنه ربما احتاج الناس إلى العمل لئلاً يضيق النهار عليهم، ولشدة الحر نهاراً وإفراطه فيعملون في ضوء القمر أعمالاً شتى بالحراثة وضرب اللبن وشق الحطب وقطع الزرع وغزل الصوف والقطن وما أشبه ذلك، فجعل الله جل وعز ضوء القمر بالليل معونة للناس على هذه الأعمال إذا احتاجوا إليها، وجعل لطلوعه أوقاتاً من الليل بعضها دون بعض، وجعل نوره ناقصاً عن نور الشمس لئلا ينبسط الناس في الأعمال كانبساطهم نهاراً فيُخلِّوا بالهدوء والقرار وتنقطع عنهم الراحة والسكون فينهكهم ذلك.
  وجعل في الكواكب جزءاً من الضوء يسيراً ليسد مسد القمر إذا غاب وليمكن بعض الحركة إذا جرت ضرورة كما قد يحدث على المرء من الحوادث التي يحتاج معها إلى النجاء والسعي في جوف الليل المظلم فإن لم يكن شيء من النور يهتدي به لم يستطع المرء أن يريم مكانه فتأمل اللطف والحكمة في هذا التقدير حيث جعلت الظلمة دولة ومدة لأجل الحاجة ولم تجعل سرمداً فيضر ذلك بالخلق وجعل خلالها شيء من الضوء يسير لبعض المآرب والمنافع التي وصفنا.
  ثم تأمل النجوم التي تظهر في بعض السنة وتغيب في بعضها كالثريا والجوزاء والشعراء فإنها لو كانت بأسرها تظهر في وقت واحد لم يكن لكل واحد منها على حاله دلالة يعرفها الناس وينتفعون بها لبعض أمورهم كمعرفتهم الآن بما يكون