(فصل): [في حدوث العالم]
  بمقدار عام أو شهر كيف كانت تكون حالهم وكيف كان يتم بقاؤهم؟
  أفلا ترى كيف كفي الناس هذه الحال التي ما عندهم فيها حيلة فصارت تجري على سنن مجاريها لا تغفل ولا تتخلف عن مواقيتها ولا تختل منافعها ومصالحها هل هذا إلا بعمد وتقدير.
  فكر في الحر والبرد كيف يتعاقبان على الأبدان وآلات الحيوان وكيف يتصرفان هذا التصرف ويتعاوران الخلق بالزيادة والنقصان والاعتدال لإقامة رسوم هذه الأزمنة التي تجري باختلافها المصالح وتتم المنافع وكيف جعلت دباغاً للأجساد الذي يراد من بقائها إلى أجل معلوم فإنه لولا الحر والبرد وتداولهما لفسدت الأبدان وانتكثت قواها وانتقضت في أسرع مدة.
  ثم فكر في دخول أحدهما على الآخر بهذا التدريج والرياضة والترسل فإنك ترى أحدهما ينقص شيئاً بعد شيء والآخر يزيد شيئاً بعد شيء حتى ينتهي كل واحد منهما منتهاه في الزيادة والنقصان، ولو كان دخول أحدهما على الآخر فجأة لأضر ذلك بالأبدان فسقمت كما أن امرأً لو خرج من الحمام الحار إلى موضع مفرط البرد فجأة لضره ذلك وأزكمه فلم كان هذا الترتيل والتمهل لولا الاعتماد للمصلحة من عامد حكيم قدير طلباً لسلامة الخلق.
  فإن زعمت أن هذا الترتيل إنما هو لإبطاء مسير الشمس في ارتفاعها سُئلت عن العلة في ارتفاعها وهبوطها أيضاً فلا تزال تسأل وتترقى بك الأسئلة حتى تنتهي إلى الاعتراف بأن ذلك بعمد وتقدير.
  فكر فيما أقول لولا الحر كانت هذه الثمار الجاسئة الصلبة لا تنضج وهذه العفصة المرة لا تطيب فتصلح لأن يتفكه بها رطبة ويقتات بها يابسة، ولولا البرد بم كان الزرع يفرخ ويريع الريع الكثير الذي به يتسع القوت فيعم الخلق أفلا ترى ما في الحر والبرد من عظيم الغناء والنفع وهو يؤلم الأبدان ويمضها فاعتبر بهذا في كثير من الأمور التي تمض الناس وتخالف أهواءهم وفيه نفع قد قدره