حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

الحديث الثالث عشر

صفحة 161 - الجزء 1

  قوله #: فَرَحِمَ اللهُ امْرَأً قَدَّمَ خَيْراً، وَأَنْفَقَ قَصْداً، وَقَالَ صِدْقاً.

  الرحمةُ من الله تعالى هي الرضى والغفران. والإنفاقُ هو العطاء والإحسان. والقَصْدُ هو الإنفاق على وجهٍ يتعرَّى عن التبذير والتقتير مع تجريد الإرادة به وجه الله تعالى. والصدقُ نقيض الكذب، وهو الخبر الذي إذا كان له مخبِرٌ كان على ما هو به.

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنَّ النَّبي ÷ دعا بالرحمة لمن قدَّم الخيرَ من المال بين يديه؛ إذ هو لا محالة صائرٌ إليه، وما خلَّفَه فهو حسرة عليه، وأنفق قصداً إنفاقاً يوافق رضا الله سبحانه، ويقصد به وجهه، لا تبذيراً ولا تقتيراً، ونَزَّهَ لسانه من الكذب المؤدِّي إلى الهلاك، وهو أصلٌ لكلِّ شرٍّ، وقد وردت الآثارُ مفصلة فيما ذكره #.

  أما رحمة الله تعالى فهي أصلٌ لكلِّ خير، وبها تقع النجاة والسلامة من كلِّ شرٍّ، والفضل والكرامة والظفر، وقد روينا في ذلك عن رسول الله ÷ أنه قال: «أخْوَفُ ما أَخافُ عَلَى أُمَّتِي الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ، أمَّا الْهوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحقِّ، وَأمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيَصُدُّ عَنِ الْآخِرَةِ، وَهَذِهِ الدُّنْيا مُرْتَحِلَةٌ، وَهَذِهِ الْآخِرَةُ قَادِمَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ؛ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ فَافْعَلُوا؛ فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ فِي دَارِ عَمَلٍ وَلَا حِسَابَ، وَأَنْتُمْ غَداً فِي دَارِ حِسَابٍ وَلَا عَمَلَ، وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ فِي الْمِضْمَارِ، وَغَداً فِي السِّبَاقِ، وَالسَّبَّاقُ إِلَى الْجنَّةِ، وَالْمُتَخَلِّفُ إلى النَّارِ، وَبِالْعَفْوِ تَنْجُونَ، وَبِالرَّحْمَةِ تَدْخُلُونَ، وَبِأَعْمَالِكُمْ تَقْتَسِمُونَ» وإذا كان هذا حال الرحمة هانت في طلبها الشدائد وركوب الأوابد⁣(⁣١).

  وأمَّا تقديم الخير فميدانه لِسعة أنواعه رحيبٌ، وفاعله عند جميع العقلاء مصيبٌ، وفيه آثارٌ لا تنحصر، وحُسْنُه في كلِّ عقل مستقر، وقد روينا بالإسناد إلى أبي الدرداء أنَّه قال: قال رسول الله ÷: «مَا مِنْ يَوْمٍ طَلَعَتْ شَمْسُهُ إلَّا وُكِّلَ بِجَنَبتَيْها مَلَكَانِ يُنَادِيانِ نِداءً:


(١) الأوابد العظائم، أصْلُهُ في الْإبِلِ الْمُتأَبِّدَة، أي الْمُتَوَحِّشَةِ، تمت. هامش (أ). وقال في اللسان (٣/ ٦٩): الأَوابد جمعُ آبدةٍ وهي التي قد توحَّشَتْ ونفرَت من الإِنس ... ، وَالْآبِدَةُ: الدَّاهِيَةُ تَبْقَى عَلَى الأَبد. وَالْآبِدَةُ: الْكَلِمَةُ أَو الْفِعْلَةُ الْغَرِيبَةُ، وجاءَ فُلَانٌ بِآبِدَةٍ - أَي بِدَاهِيَةٍ - يَبْقَى ذِكْرُهَا عَلَى الأَبد.