الحديث الثالث عشر
  «إنَّ لِلَّهِ في الْأَرْضِ أَهْلِينَ، أَهْلُ الْقُرْآنِ مِنْهُمْ، فَأَهْلُ الْحِكْمَةِ هُمْ الْمُتَّبِعُونَ لِأَوَامِرِهَا، الْمُلْتَزِمُونَ أَحْكَامَهَا، الْمُحَلِّلُونَ حَلَالَها، الْمُحَرِّمُونَ حَرَامَهَا، الْجَاعِلُونَ الْوُقُوفَ عِنْدَ مُلْتَبِسِهَا رُسُوخاً فِي الْعِلْمِ دُونَ التَّقَحُّمِ عَلَى سُدَدِها الْمُرْتَجَةِ(١)، وَالتَّعَدِّي عَلَى حُدُودِهَا الْمَضْرُوبَةِ، الَّذِينَ جَعَلُوا الْعِلْمَ سَبَباً لِلْقَوْلِ، وَأَسَاساً لِلْعَمَلِ» فأمَّا أهل الألسنة الحداد والقلوب الخالية من خوف الله تعالى المعترضون على ضَعَفَةِ أهل الحق بِعَوِيصِ(٢) الجدال، وزُخْرُف الضّلال لِيُعَدُّوا بزعمهم في العلماء، فإذا سُئِلُوا عن الغوامض هَذُّوا جوابها، وتقَحَّموا عقابها، بغير رويَّة(٣) صادقة، ولا فكرة ثاقبة، ولا بصيرة نافذة، فهؤلاء - والله تعالى المحمود المعبود - أعداءُ الحكمة لا أهلها.
  والظلم هو الضرر العاري عن نفعٍ أوفى عليه، أو دفع ضرر أعظم منه، أو استحقاق لذلك، وقد كان أصله في اللغة وضع الشيء في غير موضعه على أيِّ وجه كان، حتى سَمَّوا اللَّبَنَ الذي يُشْرَب قبل استحكام رَوْبِهِ ظليماً ومظلوماً، فقال قائلهم:
  وأهْوَنُ مَظْلُومٍ سِقَاءٌ مُرَوَّبُ
  ثم صار يفيد بالشرع الشريف ما قدَّمنا أولاً، فلا يُعقَل من قولنا: ظُلْمٌ عند الإطلاق سواه، وذلك يكشف عن معنى الحقائق، فلما كان مَنْ أعطى الحكمة غير أهلها كان بمنزلة من أنزل بها ضرراً عارياً عن نفعٍ يعود عليها يوفي على الإضرار، وعن دفع ضرر عنها يَصْغُرُ في جنْبه ذلك، ولا هي مستحقة لذلك، وكيف تستحقُّه وبها تقع النجاة والحياة الأبدية في النِّعَم الهنيَّة، والخيرات السنيَّة.
  وكل ما ذكرنا في الحكمة فهو استعارات سائغة، فجاز أن يوصفَ مَنْ أعطاها غيرَ أهلها على الوجه الذي قدمنا ظالماً لها على وجه التمثيل والمجاز.
(١) السُّدَّةُ، بالضَّمّ: بابُ الدَّارِ، ج: سُدَدٌ. (القاموس: ٢٨٧) والْمُرْتَجَةُ: المُغْلَقَةُ، قال في اللسان (٢/ ٢٧٩): الرَّتَجُ والرِّتاجُ: البابُ الْعَظِيمُ؛ وَقِيلَ: هُوَ الْبَابُ المُغْلَقُ. وَقَدْ أَرْتَجَ البابَ إِذا أَغْلَقَهُ إِغْلاقاً وَثِيقًا، تمت.
(٢) الْعَويصُ: الصَّعْبُ أو الْمُلْتَوِي، قال في المصباح المنير (٢/ ٤٣٨): عَوِصَ الشَّيْءُ عَوَصًا مِنْ بَابِ تَعِبَ وَاعْتَاصَ صَعُبَ، فَهُوَ عَوِيصٌ، وَكَلَامٌ عَوِيصٌ يَعْسُرُ فَهْمُ مَعْنَاهُ، ا. هـ.
(٣) الرَّوِيَّة: النّظَرُ والتَّفَكُّر.