[أهل الحكمة]
  قوله #: وَلَا تُعَاقِبُوا ظَالِماً فَيَبْطُلَ فَضْلُكُمْ، وَلَا تُرَاءُوا النَّاسَ فَيَحْبَطَ عَمَلُكُمْ.
  المعاقبةُ مفاعلة من العقاب، والعقابُ في أصل اللغة إتْبَاع الشيء بالشيء من جنسه إذا كان شاقّاً، وهو هاهنا مُقَرٌّ على أصله. والظالم: فاعلُ الظلم لغة وشرعاً، وقد تقدَّم الكلام في حده. والبطلان: هو الذهاب والهلاك عند أهل اللسان. والفضل: هو الشرف والثواب. والرياء: أصله إيهامُ ما لا حقيقة له تُعْلَم، أُخِذ من التخيُّل لرؤية الأبصار، وقد صار في الشريعة المكرَّمة مفيداً لما يُعْمَل من جنس الأعمال الصالحة ولا يُقْصَد به وجه الله تعالى، وإنَّما يُرادُ به وجه الناس، قال الشاعر:
  ثَوْبُ الرِّياءِ يَشُفُّ(١) عَمَّا تَحْتَهُ ... فَإِذَا اكْتَسَيْتَ بِهِ فَإِنَّكَ عَاري
  وهو عندنا من أكبر المعاصي، بل عند جميع أهل الشرع؛ لأنه يلتبس بالنفاق حتى لا يكاد يتميز أحدهما عن الآخر. والحَبَطُ: هو الهلاك، وأصله من البعير يأكل في الربيع فوق ما يحتمله فيموت حَبَطاً، فيقال حَبِطَ البعيرُ بمعنى هَلَكَ، وقد تقدم الكلام في معنى العمل.
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه ÷ نهى عن معاقبة الظالم، وأخبر أنَّ ذلك يبطل الفضل، وتأويله من وجهين:
  أحدهما: لا تُعاقِبوا ظالماً بظلمٍ مثلِ ظلمه فيبطل فضلكم، وذلك ظاهرٌ؛ لأنه لا يحل للمسلم ظُلْمُ أحدٍ من الناس ظالماً كان أو عادلاً؛ لأنَّ الظلم يَقْبُحُ لوقوعه على وجهٍ، ولا يعتبر في ذلك فاعله(٢)، ولا مواضعه، وبطلان الفضل هاهنا هو الثواب.
  وثانيهما: أنَّ العفوَ عن الظالم فيه أجر كبير، وثواب خطير، وأنَّ في مقابلة ذلك العفوِ من الفضل ما لا يعلم تفاصيلَه إلَّا الله تعالى، فإذا استنصف المظلومُ من الظالم بَطَلَ ذلك الفضلُ الذي كان يقع في المعلوم في مقابلة العفو، وصفته بالبطلان قبل وجوده جائز، يقول قائلهم لمن كان يريد به خيراً، فجرى منه ما يقضي بترك وقوعه: ضيعْتَ حظَّكَ عندي وأبطلتَ فضلكَ، فتأمل ذلك مُوفَّقاً.
(١) الشَّفُّ (ويُكْسَرُ): الثوبُ الرَّقيقُ ج: شُفوفٌ. وشَفَّ الثوبُ يَشِفُّ شُفوفاً وشَفيفاً: رَقَّ فَحَكَى ما تَحْتَهُ، تمت قاموس، هامش (أ). (انظر القاموس المحيط: ٨٢٥).
(٢) لعلَّه يريد: سواءً كان الخالق أو المخلوق؛ فإنَّ القبيح قبيح من أين كان، خلافاً لمن يقول: لا يقبح من الله شيء، والله أعلم. هامش (أ).